بقلم : محمد يوسف عدس
مستشار سابق بهيئة اليونسكو- لندن
عندما قامت الثورة البلشفية في روسيا ساد الاعتقاد بأن هذه الثورة سوف تجتاح العالم من الأورال إلى أوروبا الغربية ثم تمتد في زحفها إلى أمريكا الشمالية .. ولكن هذا الحلم الشيوعي لم يتحقق ، وشرع المفكرون الشيوعيون يبحثون عن أسباب ذلك ، وكان على رأس واحدة من لجان الدراسة رجل اسمه "جورج لوكاس" .. كان أرستقراطيا من أصل مجري ، وكان أبوه من كبار رجال البنوك في إمبراطورية "هابسبرج" قبل أن تندثر .. تعلم "لوكاس" في ألمانيا حتى أصبح منظراً مشهوراً ، واعتنق الشيوعية خلال الحرب العالمية الأولى ، وقد نُسب إليه المؤرخون أنه كان يروّج لفكرة التعليم الجنسي في المدارس وتسهيل الحصول على وسائل منع الحمل وتيسير قوانين الطلاق .. وكان من الطبيعي أن تتصادم هذه الأفكار مع قيم الشعب المجري وعقائده ، فهو شعب كاثوليكي متمسك بدينه ، ومن ثم ثاروا عليه ، مما اضطره إلى الهرب سراً إلى ألمانيا سنة 1922 ، وهناك التقى بمجموعة من علماء الاجتماع والمفكرين الشيوعيين ، وأسس معهم (معهد البحث الاجتماعي) .
مدرسة فرانكفورت :
استطاع معهد البحث الاجتماعي خلال عقد واحد من الزمن أن يصوغ منظومة فكرية نفسية لمحاربة الرأسمالية الغربية ، الأفكار الأساسية في هذه المنظومة تدور حول خلق مجتمعات انعدمت فيها الشخصية الفردية والروح الإنسانية ، لتحلّ محلها فكرة الطبقة والمجتمع .. في هذه المجتمعات تتوارى فكرة الألوهية ليصبح الشيطان هو الحاكم الأكبر .. فإذا سيطرت القوى الشيطانية تحركت نزعات العنف الكامنة في نفوس البشر كمقدمة لانطلاق الثورة الشيوعية .
حول هذه الأفكار نشأ ما يُسمى في تاريخ الفكر الغربي "مدرسة فرانكفورت" التي تزعمها "جورج لوكاس" .
كانت مهمة مدرسة فرانكفورت تتركز في محاولة تدمير التراث والثقافة (المسيحية اليهودية) لصالح ثقافة جديدة تعمق شعور الناس بالاغتراب وتكشف عوامل الغضب والعنف .. وبذلك تخلق بربرية جديدة تمزق الإطار التقليدي للثقافة الغربية .
العجيب في الأمر أن الغواية المتمثلة في هذه الأفكار استهوت إلى جانب الشيوعيين شخصيات أخرى من الاشتراكيين غير الشيوعيين ، وعناصر من المتطرفين والصهاينة بل اجتذبت إليها بعض غلاة الرأسماليين الغربيين .
كان تمويل هذا المعهد يأتي فقط من الكومنترن الشيوعي ولكن بعد ذيوع شهرة مدرسة فرانكفورت أصبح التمويل يأتي من جهات أخرى أيضا ، منها جامعات ألمانية وأمريكية .. ومؤسسة روكفلر وشبكة كولومبيا للإذاعة ولجنة اليهود الأمريكيين والمخابرات الأمريكية ، ومكتب الممثل الأمريكي في ألمانيا ، وغير ذلك من المؤسسات والمنظمات المعنيّة بأساليب السيطرة على البشر .
وأمام هذه الحالة التي اختلط فيها الحابل بالنابل أبدى ستالين تأففه واعتبر أن الأمور بلغت حد المسخرة ، فاعتقل "لوكاس" وجعله يعتذر ، ثم سجنه خلال فترة الحرب العالمية الثانية باعتباره أحد المتعاطفين مع العدو الألماني .. ولكن "لوكاس" عاش بعد ذلك ليشهد ثورة المجر على الاتحاد السوفيتي سنة 1956 وأصبح وزيراً في حكومة إمري ناجى .. ولكن الأمر لم يستمر طويلاً فقد جاءت دبابات الجيش السوفيتي لتسحق الثورة المجرية .
شخصيات وتوجهات :
من الشخصيات الهامة في مدرسة فرانكفورت يبرز اسم "هربرت ماركيوز" الذي تحول إلى النازية ، ثم رحل إلى الولايات المتحدة ليصبح كبير محللي وزارة الخارجية الأمريكية للسياسات السوفيتية في عهد "مارثي" ، ثم انتقل مرة أخرى ليصبح من أكبر اليساريين الجدد ، ثم أنهي حياته بالمساعدة في إنشاء حزب الخضر (أنصار البيئة) في ألمانيا الغربية .
ولكن يبدو أن أهم شخصيتين اشتهرتا في مدرسة فرانكفورت هما "ثيودور أدرنو" و"ولتر بنجامين".
نلاحظ في جميع هذه الشخصيات أنها تتوحد في سمات مشتركة ، فهم جميعا متقلبو المزاج ، مصابون بقلق عارم ورغبة شيطانية في إحداث انقلاب في المجتمعات البشرية عن طريق السيطرة النفسية والفكرية على الإنسان ، ولديهم جميعا نزعات إلحادية متطرفة ، ولكنهم لا يشتركون بعد ذلك في أيديولوجية واحدة ، ومن ثم نراهم متقلبين في ولاءاتهم بين الشيوعية والرأسمالية والنازية والصهيونية .. كان "ولتر بنجامين" مثلا صهيونيا عاشقا لإسرائيل .
لعل أبرز نجاحات مدرسة فرانكفورت أنها استطاعت تطوير الإعلام الإليكتروني (الراديو والتليفزيون) ليصبح أداة قوية وفعالة للضبط الاجتماعي ، ويرجع الفضل في ذلك إلى كل من "ثيودور أدرنو" و"ولتر بنجامين" .
الإلهام الفني والإلحاد :
ترى مدرسة فرانكفورت أن يجعل المثقفون في عصر الرأسمالية الحديثة هدفهم الأساسي هو القضاء على العقيدة التي كانت سائدة في الثقافة الغربية على مصدر "الإلهام الفني"، فقد كان الاعتقاد السائد هو أن الفن ينبع من الوعي الذاتي للفنان بالمثال الإلهي الخالق .. بمعنى أن الفن إنما هو إلهام روحي مصدره الإيمان الديني .. ومن ثم يرى "ولتر بنجامين" أن على النخب المثقفة أن تقوم بعرض الفن والتحدث عنه باعتباره نتاجا أو إلهاما ماديا أنثروبولوجيا، ناتجا عن تأثيرات مادية على العقل كتأثير الحشيش والأفيون على المخيلة الإنسانية .. في نفس الوقت لابد من إيجاد أشكال جديدة تعمق الشعور بالاغتراب حتى يؤمن الناس أنهم بغير الاشتراكية سيعانون التعاسة .. إنها ثقافة لا تربط الإنسان بالأيام السعيدة البائدة ، ولكن بالأيام التعيسة الحاضرة .
بذلك يستطيع الفن الحديث تدمير الفن البرجوازي .. وينزع الإنسان من عقيدته الإلهية .. يرى "ولتر بنجامين" أن الاختيار الوحيد في الإبداع هو الثورة السياسية ، وأن برمجة اليأس الإنساني بهذه الطريقة تعنى طرد الباعث الأخلاقي من السياسة .
كمثال على تطبيق هذه البرمجة في الواقع رأينا "ولتر بنجامين" يحث ويتعاون مع "بريخت" الكاتب المسرحي المشهور في تطبيق هذه النظرية .. وهكذا شرع "بريخت" يسخّر مواهبه الإبداعية للتأثير على المشاهدين بحيث يتركون المسرح في حالة من اليأس والغضب الذين لا هدف لهما .
وكانت تحليلات بنجامين وأردنو تمثل الأساس النظري لكل الاتجاهات السياسية الإلحادية التي انتشرت كالوباء في الجامعات الغربية مما دفع صحيفة "واشنطون بوست" للقول بأن "ولتر بنجامين" هو أنه أعظم منظّر أدبي ألماني في هذا القرن .
بشّر بنجامين وأدرنو ببعض الاستنساخ الميكانيكي للفن .. وجعلا هدف الفن متركزاً في التسلية بدلاً من الإمتاع .. العجيب أن هذه التوجهات استهوت كل الأنظمة على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية : فقد استفادت بها البلشفية الروسية ومارستها ، بنفس القدر الذي استفادت بها الرأسمالية الغربية ومارستها .
هناك شخصيات أخرى في مدرسة فرانكفورت يرون أن الأسرة الحديثة بنظامها الأبوي دليل قاطع على الاتجاهات الاستبدادية في المجتمع .. وأن النظام الأمومي هو الذي يمثل التقدم المطلوب للمجتمع .. وقد رصدوا لهذا التقدم سبعة مؤشرات من أبرزها : ثورة النساء ، وتحرير المرأة ، وثورة الأطفال والمراهقين (استنادا إلى نظرية بنجامين و"سْبوك" وآخرين) للسماح للأطفال بتعاطي عقار الهلوسة تعبيراً عن تمردهم على المجتمع .. وظهور حركة الشباب الراديكالي متمثلة في حركة الهيبيز وغيرها من حركات التمرد .. والعلاقات الجنسية الجماعية .. وبناء أسر (سايبة) على أسس اجتماعية وقانونية رخوة .. وإشاعة (موضة) الملابس والسلوك الموحد للجنسين .. وأخيراً ترويج فكرة جنة المستهلك .. وهي فكرة خطيرة على عقل الإنسان وسلوكه : ففي هذه الرؤية ينتهي دور الأم الطبيعية نهائيا ويبرز دور الأم التكنولوجية التي تتولى رعاية الأطفال وتهددهم بسيل لا ينقطع من الإعلانات المتلفزة .. في هذه العملية يتحول الإنسان عاطفيا إلى طفل يلتمس الأمن في صدر أمه الحنون الذي يمدّه بفيض لا ينقطع من اللبن ، وبذلك تنعدم الحاجة إلى جهد الإنسان في اتخاذ قراراته اليومية بنفسه ، لأن أمه الإعلانية تتولى عنه هذا العبء الذي لم يعد له لزوم .
سي السيد :
وقد اخترعت مدرسة فرانكفورت صورة الشخصية المستبدة أو ما يمكن أن نسميه (سي السيد) كسلاح لاستخدامه ضد خصومها السياسيين ، والتضليل هنا قائم على افتراض أن تصرفات الشخص في حد ذاتها ليست هي التي يُعوّل عليها في الحكم وإنما مدى تطابق هذه التصرفات على المثل أو النموذج الذي ترسمه مدرسة فرانكفورت .
كان هذا النموذج للمستبد هو المناوئ للثورة البلشفية .. فغير الثوريين هم المستبدون حقاً ، وهؤلاء كان من الواجب إعادة تعليمهم في معسكرات الاعتقال البلشفية ، ثم تغير هذا النموذج تحت تأثير الجماعات الصهيونية الأمريكية ومؤسسة روكفلر فأصبح المستبد هو "اللاسامي" ولكن - في حقيقة الأمر- كان هذا مجرد عنوان الكتاب ، أما الهدف الحقيقي فقد كان قياس مدى انتماء الشخص للمعتقدات الغربية أو بمعنى آخر الثقافة الغربية العلمانية ، على هذا الأساس يتم تشخيص الحالة وبالتالي تحديد ما إذا كان صاحبها استبداديا متسلطا ومن ثم تتم إدانته.
هذه الخلفية الفكرية هي التي تلعب اليوم دوراً خطيراً في تحييد المسلمين الأوروبيين وعزلهم وتوجيه الاتهامات ضدهم .. وتعميم هذه الأحكام التعسفية على كل المسلمين في العالم تبريراً لمواصلة "الحرب على الإرهاب".
وهكذا رأينا أن المعايير والقوالب التي خلقتها مدرسة فرانكفورت التي نشأت في حضن الكومنترن الشيوعي هي نفس المعايير والقوالب التي استخدمتها الولايات المتحدة لتحديد من هم أعداؤها منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم ، مع تغيير بسيط في التسمية .. فبدلا من "المستبد" جاء مصطلح "الإرهابي المسلم".
ماركيوز والثورة الجنسية :
في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين شرعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية المركزية تجرى تجارب واسعة النطاق على تأثيرات أقراص الهلوسة التي عُرفت باسم (LSD) في عملية السيطرة على البشر ... وقد تبين من هذه التجارب أن تعاطي هذا العقار يجعل الضحية شخصية معادية للمجتمع ... أناني متمركز حول ذاته .. مبالغ في تضخيم الأمور .. فاقد الشعور بالوقت .. فهو في حالة (توهان) عميقة .. وباختصار يكتسب سمات الشخصية التي وصفتها نظريات مدرسة فرانكفورت ، ولكن الذي حول نظريات مدرسة فرانكفورت إلى ثورة في ستينيات القرن العشرين هو كتاب "ماركيوز" بعنوان (Eros and Civilization) نُشر عام 1955 بتمويل من مؤسسة روكفلر .. زعم ماركيوز في كتابه هذا أن الأمل الوحيد للإنسان لكي يفلت من سطوة المجتمع الصناعي هو تحرير غريزته الجنسية وإطلاقها لتتمرد على عقلانية التكنولوجيا .. وهذا الترويج لفكرة أن الحياة إنما هي مجموعة من شعائر جنسية لم ينقطع، بل ظلت الفكرة تتعمق وتتجذر في المجتمعات الغربية إلى يومنا الحاضر .. وقد هيمن تلاميذ ماركيوز وأدرنو بصفة مطلقة على الجامعات حتى اليوم .. بحيث إنك لا تجد كتاباً إلا فيما ندر - سواء في الفنون أو الآداب أو اللغة لا يعترف بشكل صريح بأنه مدين لمدرسة فرانكفورت .
هال بيكر وغزو العقول :
"هال بيكر" خبير إعلامي في الإدارة أو قل بالأحرى التلاعب بعقول مديري المؤسسات والقادة السياسيين .. أنشأ سنة 1981م برنامجاً لوزارة الخارجية الأمريكية يعتمد على استخدام صور بالكمبيوتر لغسيل عقول قادة قطاعات التنمية في العالم الثالث بهدف تطويعهم لقبول شروط صندوق النقد الدولي وبرامج السيطرة السكانية (تنظيم النسل!!..) .. وتهيئة هؤلاء القادة للانصياع لتوجهات الشركات متعددة الجنسيات (في العولمة والخصخصة)..
ترى كم من القادة والوزراء عندنا خضع لهذه البرامج الأمريكية ؟!..
يقول "هال بيكر" : أنا أعلم السر الذي يجعل الأمريكي العادي يؤمن بأي شيء أريده أن يؤمن به .. فقط دعني أسيطر على التليفزيون .. فأنت بمجرد أن تحبك الصورة على الشاشة حتى تتحول إلى واقع .. حتى لو كان العالم الخارجي ( أقصد خارج جهاز التليفزيون) لا يتطابق مع الصورة المتلفزة ، فإن الناس سيشرعون على الفور في محاولة تغيير العالم لكي يتطابق مع هذه الصورة المتلفزة .
وخلال خمس عشرة سنة منذ تصريح بيكر لم تعد الولايات المتحدة وحدها ، بل العالم بأسره خاضعا لسيطرة شبكات إعلامية وشبكات إنترنت ذات قدرة هائلة على غواية البشر والتأثير على عقولهم .
هذه القدرة الهائلة - كما يصفها بيكر - إنما هي عملية تلاعب محكم التدبير موجّه لخلق الرأي العام وصياغته ليتوافق سلوكه تلقائياً مع التوجهات التي تمليها القوى الحاكمة والقوى المسيطرة .
وفي النضال المتواصل لخلق عالم موحد - في عصر العولمة - يتجاوز الدولة الوطنية والثقافات الخاصة ، سنجد أن آلة الحرب النفسية الجماهيرية تحشد جهود كتاب وأطباء نفسيين في جيش واحد لخلق المحتوى المناسب لغزو العقول .. وصياغة الرأي العام .
صناعة الرأي العام :
ربما نتساءل ما هذا الرأي العام الذي يُراد صياغته ؟..
دعك من كتب علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي وتعالَ لنرى كيف يعرفه صناع الرأي العام .. يقول فولتر ليبمان ببساطة وتسطيح شديدين : "الرأي العام هو الصور التي في رءوس الناس عن أنفسهم وعن الآخرين وعن احتياجاتهم وأهدافهم" .. فمن يصنع هذه الصور ؟.. والإجابة ببساطة شديدة وواقعية : إنه الإعلام المسموع والمنظور .. لاحظ أن الأشخاص الذين اكتسبوا شهرة خلال الإعلام يصبحون هم قادة الرأي العام .. من الشخصيات الرياضية والفنانين والفنانات وكل من ينصّبه الإعلام نموذجاً أو بطلاً من أبطال الرأي العام .. هؤلاء هم الذين يحددون للناس أفكارهم وأذواقهم ، بل ومواقفهم في أعقد القضايا والمشكلات السياسية .
ومن ثم يؤكد لنا "ثيودور أدرنو" المهندس الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت "إن قدرة الأمريكيين على التفكير سوف يتم تدميرها تماما حينما تنجذب غالبتهم لقضاء وقت فراغهم أمام أجهزة التليفزيون" .. كتب أدرنو هذا الكلام في خمسينيات القرن العشرين ، وهو في غمرة حماسه بأفكاره الجديدة في السيطرة على البشر ، ولم يكن للتليفزيون - في ذلك الوقت- هذا الانتشار وتلك السطوة التي أصبحت له الآن !!.. واليوم يكشف لنا خبراء الحرب النفسية عن علم جديد غريب يطلقون عليه اسم (صناعة الضحايا (Victimology) وهو علم طوّره معهد "تافستوك" بلندن .. ويقوم على أساس نظرية أنه من الممكن إحداث حالة من الفزع المقيم للأشخاص بمواصلة تعريضهم لصور ومناظر أفلام العنف السينمائي ..
وقد تجاوزت المسألة مرحلة التنظير والتفكير الأكاديمي إلى التطبيق العملي .. فهناك الآن مؤسسات متخصصة ومراكز منوط بها اتخاذ قرارات على أساس يومي أو أسبوعي لتحديد ماذا ينبغي للشعب الأمريكي أن يعرفه ، وماذا لا ينبغي له معرفته ؟.. ماذا من الأخبار والقصص ستُعرض عليه ؟.. وماذا منها لن يرى النور أبدا ؟!..
إنها عملية تجهيل للشعب الأمريكي والتلاعب به لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية .. أسوق إليك في هذا الإطار ما سمعته من خبيرة عربية في الأمم المتحدة صرحت في لقاء لها على إحدى الفضائيات .. قالت : لقد ذهلت وأنا في إحدى المؤتمرات أن مثقفة أمريكية لم تسمع مطلقا عن شيء اسمه معتقل جوانتانامو إلا أن جوانتانامو هذه منتجع سياحي على البحر يتمتع بشمس مشرقة ودفء دائم !!.. ويقول خبير عربي في برنامج آخر : لقد هالني أن نسبة كبيرة من الأمريكيين يعتقدون أن الفلسطينيين هم المحتلون لأراضٍ إسرائيلية وأنهم هم المعتدون والمغتصبون .. ويعزو هذا إلى أن الإعلام الأمريكي قد حجب عنهم الحقائق ، ولم يسمح إلا بنشر آثار العمليات التي يطلق عليها "انتحارية" في الأراضي الإسرائيلية ، أما جرائم إسرائيل الوحشية على الشعب الفلسطيني كل يوم فلا تظهر أبداً على شاشات التلفزة الأمريكية.
عقول ميتة :
تأتي في هذا المجال دراسات مُستفيضة عن تأثير التليفزيون على الجهاز العصبي للإنسان .. وقد ظهرت لنا أن تكرار مناظر معينة في التليفزيون تسببت في إغلاق جهاز التفكير المركزي في المخ تماما .. وفي دراسات أخرى أثبتت أن الإدمان على مشاهدة البرامج التليفزيونية من شأنها إضعاف القدرة على التفكير النقدي لما يُعرض على شاشة التليفزيون ..
ويرى أصحاب هذه الدراسات أن مجرد ورود الصور على الشاشة خصوصاً إذا كانت في سياق برنامج إخباري أو وثائقي يجعل لهذه الصورة مصداقية ، ويخلع عليها شعورا بأنها هي الواقع الحقيقي .. ولم ير أصحاب هذه الدراسات ما يستوجب الاستهجان أو الاستنكار ، بل يعترفون بأن التليفزيون ينتج أجيالاً من الناس بعقول ميتة .. وأن هذا أنسب وضع لنجاح خطة كوكبية أكبر للسيطرة الاجتماعية تقوم بدراستها مؤسسة تافستوك وفروعها في العالم .
تريست وكنج (من معهد) تافستوك يحثان على شن حملة لإعادة تربية البشر لكسر آخر معاقل المقاومة الوطنية لصالح العولمة والنظام العالمي الجديد .. (في هذا السياق اقرأ كتاب إمري وتريست (Choosing a Future ) اختيار المستقبل).
الفاشية الناعمة :
في سنة 1981 قدم "برْترام جروس" ورقة إلى "مؤتمر المستقبل" أشار فيها إلى ولادة لنظام عالمي جديد .. قال : في الأيام القادمة سوف يطرح على العالم ما يسميه معهد تافستوك بـ "الاختيار الحاسم" وهو اختيار بين عدد من البدائل كلها سيئة .. ولكن بسبب الرعب الذي سيسود في ذلك الوقت وتحت ضغوط أحداث متلاحقة فسيضطر الناس إلى اختيار أقل البدائل سوء ..
وهو يرى أن المجتمع الصناعي الغربي في طريقه إلى التمزق والانفجار .. وسيؤدي هذا إلى فوضى عارمة .. تؤدي بدورها إلى ظهور نظام فاشي استبدادي .. إما على النمط الذي ظهر في ألمانيا النازية أو نظام أكثر إنسانية يمكن تسميته "الفاشية الناعمة".
ويعتقد جروس أن هذا النوع الثاني من الفاشية هو الاختيار الأفضل .. وذلك لأنه يتضمن مشاركة جماهيرية وحرية أكثر .. وسيكون هو الديمقراطية الحقيقية المتاحة لأكبر عدد من الناس .
لا يزعم جروس أنه نظام خالٍ من المعاناة والآلام .. تلك هي الفاشية الناعمة التي ستغرق المجتمعات البشرية بنظام معلومات كوني يشتمل على شبكات هائلة من تلفزة الكابلات والفضائيات والأقمار الصناعية وشبكات الحاسبات الآلية.. فمن سيدير هذه الفاشية الناعمة ؟..
يقول جروس : "إنهم نخبة عالمية مستنيرة من أبرزهم أصحاب صناعة وتكنولوجيا الاتصالات متعددة الجنسيات .. مصادر تمويلها عالمية .. وستحكم هذه النخبة كتلا هائلة من الجماهير مُستمرة ليلها ونهارها أمام شاشات التلفزة .. هذا النوع من الجماهير يمكن كسبهم بسهولة كرعايا طيبين للنظام العالمي الجديد .. وذلك عن طريق إغوائهم بالمسلسلات والبرامج المسلية .. وإغراقهم بطوفان من المعلومات والتفاصيل التي لا حصر لها لا تسبب لهم إلا الارتباك والحيرة ، ثم التبلد الذهني المزمن .. وما دمنا استطعنا كسب هذه الأعداد الهائلة من الجماهير الغائبة عن الوعي - من خلال الإعلام والتعليم - فإن المقاومة التي ستبديها الفصائل الوطنية المعارضة أو المتمردة سوف تنهار".
انتهي الاقتباس من كلام "برترام جروس" .. ويبدو أن الأمر ليس فيه "هزار" وإنما هو جدّ كل الجدّ .. ففي سنة 1989 أقام معهد تافستوك ندوة في جامعة "كيس وسترن رزيرف" الأمريكية لمناقشة أساليب تحقيق "فاشية عالمية بلا دولة" .. وفي سنة 1991 كرّس معهد تافستوك مجلة "العلاقات الإنسانية" لأبحاث هذا المؤتمر الذي ترددت في أوراقه الدعوة إلى تسخير الإعلام الجماهيري لتحقيق مشروع الفاشية الناعمة !!..
قتل المستقبل :
تساءل بعض المفكرين عن الإدمان التليفزيوني قال : تُرى ماذا سيحدث عندما يشبّ هذا الجيل من الأطفال المدمنين على مشاهدة التليفزيون ويتولى السلطة في بلادنا؟ هل سيكونون مؤهلين للقيام بهذه المهمة ؟ هل سيكونون قادرين على التفكير ومعالجة المشكلات ؟
استبعد إمري وأصحابه السؤال من أساسه بحجة أنه سيكون هناك وقت كافٍ لتدريبهم على الحكم !!.. ولم يبق السؤال معلقا بلا إجابة شافية حتى جاء "لينتز" .. وكان أستاذاً في جامعة ولاية بنسلفانيا .. جاء ليحذّر الأمة بأن مستقبلها كارثي ، فقد لاحظ خلال دراسته لمهارات القراءة والكتابة عند الطلاب أن الإعلام الجماهيري والتليفزيون بصفة خاصة قد دمّر هذه المهارات تماما ، فلم يعد معظم الطلبة يكتبون كتابة منطقية متماسكة ولا يتكلمون بعقلانية .. لا لقصور في برامج التعليم ، ولكن لأنهم ليس لديهم الرغبة في التفكير أصلا .. فقد رسخ التليفزيون في عقولهم أن الصورة .. والصورة وحدها هي الحقيقة وهي المعرفة المنشودة .. وما عداها فلا شيء .. لا أسئلة ولا استفسارات ولا جهد للتعمق في عقول الآخرين وأفكارهم .. وإنما الصورة فقط وما يدور حولها من تعليقات.
وينتهي لينز إلى هذه الخلاصة فيقول : "لأننا سلمنا رؤوسنا وأنفسنا لهذا الوهم الذي يصنعه التليفزيون فإننا سائرون حتما إلى جنون جماعي ، سيكون له انعكاساته المنظورة وغير المنظورة على مستقبل هذه الأمة .. سوف نبدأ نرى أشياء لا وجود لها في الواقع .. وسوف نسلم لغيرنا أن يصنع لنا الوهم -على أنه هو الحقيقة- والنتائج لكل ذلك مروّعة".
يرى لينتز أن النتائج ستكون مروّعة ، ولكن الذين يرسمون الخطط للسيطرة على البشر، والذين يروجون لفكرة الفاشية الناعمة يرون الأمور بمنظار آخر .. فهذه الشخصية السلبية المسلوبة الإرادة التي طرحت التفكير المنطقي والنقدي جانبا ، والتي تعتمد على آخرين ليصنعوا لها قراراتها ويرسموا مستقبلها هي الشخصية المطلوبة، والتي يعملون على صنعها من خلال وسائل الإعلام .. لاشك أنها الشخصية التي تتوافق تماما مع منظومة "الفاشية الناعمة" أو الديمقراطية الموهومة .
الوهم الضروري :
الذي استخدم هذه العبارة هو "راينهولد نيبور" ، وخلاصة فكرته هي : أن غالبية الجماهير من العوام والجُهّال .. وبحكم هذا الوضع فهم غير قادرين على التفكير الذي يستند إلى المنطق، والتحليل خصوصية لا يتمتع بها إلا النخبة .. وهؤلاء عليهم خلق هذا "الوهم الضروري" القائم على التبسيط والعاطفية من ذلك النوع الذي تبثه وسائل الإعلام عن طريق الصور المكرورة والقصص الخيالية وبرامج التسلية اللاهية .
وهكذا يرى راينهولد أن الجمهور العام لا قدرة له على صناعة قرارات معقولة .. فهم لا يعرفون ماذا يحتاجون .. ومن ثم فإنه من غير الأخلاقي ولا اللائق إشراكهم في الشئون العامة ، فإن هذا يشبه السماح لطفل ذي ثلاث سنوات أن يلعب بسكين المطبخ .. وحتى لا يتورط هؤلاء العوام في مشاكل لا قبل لهم بها يجب علينا إلهاؤهم والحيلولة بينهم وبين الانشغال بالشأن العام.
فمن يصنع القرارات إذن ؟ ... يجيب راينهولد : إنهم النخبة من الفئات المتخصصة .. القلة الذكية .. هؤلاء المراقبون الهادئون هم القادرون على اتخاذ القرارات التي تخدم مصالح أصحاب السلطة الحقيقية .. والمقصود هنا هم كبار رجال الأعمال والمال المسيطرون على الاقتصاد والسياسة .
* يرد إلى ذهني في هذا السياق تصريح أدلى به سياسي عربي في أول زيارة له بعد مبايعته رئيسا للدولة - عندما سأله أحد الصحفيين عن موقفه من الديمقراطية في بلاده ، وهل تتوقف السلطات عن تزييف الانتخابات والخضوع لإرادة الشعب ؟
فأجاب الرجل ساخراً : أنت تتحدث عن بلادي وكأنها أمريكا .. يجب أن نفهم أن أكثر من نصف شعبنا أمي لا يعرف القراءة والكتابة (لعله نسي أن أكثره غارق في مشكلات الفقر والبطالة) .. ثم تابع قائلاً : فماذا تتوقع أن تكون صورة الديمقراطية التي يمكن أن يختارها .. ! هكذا تفكر النخبة المتسلطة على الحكم في بلاد العرب ، إنهم لا يفكرون حتى في (الفاشية الناعمة) فهذا ترف لا يقدرون عليه ، وما لديهم هو فاشية من العيار الثقيل ..!
القبول المصنوع :
(والتر ليبمان) يضيف إلى فكرة (الوهم الضروري) فكرة (القبول المصنوع) فهو يرى أنه في المجتمعات الديمقراطية لا تستطيع أن تتحكم في الناس بالقوة كما تفعل السلطات المستبدة في بلاد العالم الثالث التي لا تمارس الديمقراطية ..ولكن عليك أن تتحكم في تفكيرهم .. وهو يؤمن أن هذا من صميم النظرية الديمقراطية الليبرالية ، في هذه الديمقراطية يجب أن يسمع صوت الجماهير .. ومن ثم عليك أن تتحكم في صناعة هذا الصوت مسبقاً بحيث يأتي مطابقاً لما تتوقع منه بمحض إرادته وحريته ...!
يتسق مع هذا التوجه اعتقاد (ليبرمان) أن الجماهير العامة ليسوا إلا قطعانا هائمة - وعلينا أن نحمي أنفسنا من غضبة هذه القطعان .. وهذا لا يتأتى إلا عن طريق صناعة القبول أو (هندسة الموافقة) .
هنا يميز بين فئتين من الناس : النخبة الحاكمة والجماهير المحكومة .. ويرى أن كل فئة تحتاج إلى نوع مختلف من التعليم والإعلام .
فالنخبة المتميزة لابد أن يكون لديها فكرة دقيقة عن العالم حتى لا يتخذوا قرارات خاطئة .. ولابد لهم أيضا أن يتشربوا عقيدة ما قبل أن يبدأوا عملهم في خدمة الكبار .. فسواء كانت هذه النخبة ممن سيديرون سياسات الدولة أو من فرق المثقفين الذين يروجون لها ... يجب أن تكون عقيدتهم هي خدمة مصالح الأسياد الكبار .. ومن أجل ذلك فقط يسمح لهم بالاطلاع على وسائل المعرفة الخاصة بالنخبة.
أما بالنسبة للجماهير العامة فإن وسائل الإعلام الموجهة إليهم تلعب معهم دورا مختلفاً ، فهؤلاء يجب وضعهم خارج دائرة الاهتمامات الحقيقية الجادة ... إنهم يمثلون من 80 إلى 90 في المائة من الشعب .. وعلى وسائل الإعلام إلهاؤهم بالأفلام والمسلسلات ونجوم الكرة والموسيقى والغناء حتى لا يفكروا في المشاركة في صنع القرارات السياسية ...
ويكمل دور التليفزيون وسائل تسلية أخرى كثيرة من منتجات الثقافة الشائعة في عصرنا الحاضر من : كاسيت و"سي دي" و"دي في دي" .. وكلها من حيث الشكل والمحتوى تتبع نمطا واحدا .. وكلها تستهدف خلق جمهور من الناس مجرد من التفكير ومن القدرة على النقد .. مستهلك سعيد ببضاعته حتى لو كان محتواها مجرد نفايات ضارة .. إذ يبقى تأثيرها على عقول الناس وعواطفهم جد خطير..
ويمكرون ، ويمكر الله ، والله خير الماكرين..
هذا المقال منقول من موقع التاريخ اضغط هنا للذهاب لصفحة المقالة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق