الجمعة، 21 نوفمبر 2008

تراهات في المسألة القبطية

بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز

أستاذة الحضارة الفرنسية

حينما تصل المغالطات الاستفزازية إلى حافة اشتعال الفتن ، فلا بد من وقفة توضع فيها النقاط على الحروف ، للحد من اندفاع بعض المتطرفين من المسيحيين فى مصر ، فى الداخل والخارج، الذين باتوا يناشدون التدخل الأمريكى صراحة لمساندة فرياتهم وتقسيم البلاد ـ وفقا لما يدور من محاولات فى العديد من البلدان الإسلامية ، وتحقيقا لذلك التخريب الذى لا يكف عن الإطلالة برأسه من وقت لآخر لتقسيم مصر ـ الأمر الذى يضع ولاءهم للوطن محل نظر ..

ولا يسع المجال هنا للرد على كل ما تضمنه خطاب الأنبا توماس فى معهد هادسون يوم 18 يوليو 2008 ، ولا لكل ما ورد بمقال السيد مجدى خليل ، مدير منتدى الشرق الأوسط للحريات، من فريات دفاعا عما ورد بالمحاضرة . لكننى سأتناول الرد فى عجالة على أربعة محاور أساسية هى : مصر الفرعونية ؛ " الغزو " العربى الإسلامى ؛ موقف تلك "الفئة" العميلة على مر التاريخ ؛ و"الأصولية الإسلامية" ، التى اندلعت منذ السبعينات من القرن العشرين كما يقولان ..
1 - مصر الفرعونية :

* اسم مصر Egypt مشتق من كلمة " كمت " المصرية القديمة وتعنى "الأرض السوداء" ثم تحولت إلى "جمت " و"جبت" والى "إيجبتوس" فى العصر اليونانى ثم إلى "إيجيبت" مع سقوط اللازمة اليونانية. و كلمة الأرض السوداء هى نسبة الى دورة فيضان النيل وطميه الذى كانت تعتمد عليه الزراعه آنذاك.

* كلمة " قبط " التى انتسب إليها الأقباط مأخوذة من كلمة Coptos وهو الاسم اليونانى لمدينة "قفط " قرب الأقصر ، والتى تمركز فيها الأقباط هربا من اضطهاد الرومان لقربها من شاطئ البحر الأحمر حيث يمكنهم الهرب إذا ما زاد القمع.. وهى كلمة لا تزال تكتب على كافة الخرائط الخاصة بتلك الفترة . ويشير هيرودوت إلى أن أغلب سكانها كانوا من الأقباط ، وذلك فى الوقت الذى كانت فيه المسيحية تحارب بضراوة والمسيحيون يمثلون أقلية ضئيلة ، وهو ما يفسر سر ارتباطهم باسم هذه المدينة التى تمركزوا فيها للحماية .. لذلك لا يجوز أبداً إطلاق كلمة "قبطى" على كل المصريين : فالمصرى نسبة الى الوطن ، ومسلم أو مسيحيى نسبة للدين.

* مصر الفرعونية كانت تتبع الديانة الوثنية وظلت بعض المعابد تعمل حتى القرن السادس الميلادى. واللغة المصرية القديمة هى الهيروغليفية ، التى استمرت حتى عصر الاضمحلال الثالث ، أى عند غزو الإسكندر الأكبر. واللغات السائدة فى مصر الفرعونية كانت : الهيروغليفية، كلغة رسمية للدولة؛ والهيراطيقية ، أيام العصر الهيللينى والكهنة هم الذين كانوا يستخدمونها ؛ والديموطيقية ، أى اللغة الشعبية أو العامية التى ما زالت توجد بعض مفرداتها فى العامية الحالية ، و قد بدأ استخدامها بعد الدولة الحديثة (1580-1085 ق م) .. واللغة القبطية بدأ ظهورها فى القرن الميلادى الثالث عندما استقرت المسيحية فى مصر نسبياً، فتم استخدام الأحرف اليونانية ، لغة الحاكم المستعمِر ، إضافة إلى بضعة أحرف صوتية مصرية قديمة لم تكن موجودة باليونانية فأُخذت من الصوتيات الهيروغليفية.

* عبارة التراث القبطى والفن القبطى ، كلها بدع ومسميات حديثة تم اختلاقها فى منتصف القرن العشرين ، والأب بول بورﭼيه P. Bourget)) هو أول من كتب فى الفن القبطى اعتمادا على بورتريهات الفيوم ، وهى الصور التى كانت ترسم على توابيت الموتى بدلا من التوابيت المنحوتة الغالية.. وهذه المجموعة من البورتريهات كانت تُعد فى عُرف علماء الآثار عبارة عن رسومات عصر الاضمحلال ـ أى الفن المتخلف المستوى بالنسبة لما كان عليه الفن المصرى القديم، حتى وإن كان منها بعض الوجوه المعبّرة .. وتوالت الكتابات التمجيدية المفتعلة بعد ذلك لترسيخ فكرة "الفن القبطى" و"التراث القبطى" ، فى حين أن الحقبة التى ظهرت فيها المسيحية فى مصر تدخل ضمن عصر الاضمحلال كمرحلة انتقالية، من كثرة ما بها من قلاقل ..

* المسيحية ظلت تحارَب وتتعرض للاضطهاد بحيث فى عام 361 م قام الإمبراطور جوليان بإعادة الديانات الوثنية و حجّم الوجود المسيحى فى السلطة الحاكمة وأمّم أموالهم من كثرة مؤامراتهم للاستيلاء على الحكم ، فقام القساوسة بترتيب اغتياله بيد حارسه وألصقوا به عبارة "المرتد".. وفى عام 313 كان الإمبراطور قسطنطين قد سمح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم مثل باقى العقائد الوثنية السائدة بموجب مرسوم ميلانو ، لضم أطراف الإمبراطورية شريطة أن يدخل المسيحيون الجيش ، ووافق الكنسيون، الذين خرجوا بذلك عن تعاليم يسوع الذى كان يحرّم القتل ، وما أكثر خروجهم عن تعاليمه .. وفى عام 391 أعلن الإمبراطور تيودوز المسيحية ديانة رسمية وحيدة للدولة. وهذا يؤكد أن الوضع لم يستتب للمسيحية إلا فى أواخر القرن الرابع الميلادى . ومنذ ذلك التاريخ بدأت عملية اقتلاع العقائد الأخرى بكل آثارها ..

* أما فى مصر فقد قاد الإمبراطور دسيوس فيما بين 249-251 حملة ضد المسيحيين ، وحضر ديوكليسيان إلى مصر على رأس حملة لضرب المسيحيين باعتبارهم "رأس الحية لهذا الدين".. واتخذ المسيحيون معركة يوم 29/8/284 بداية للتقويم القبطى باسم "تقويم الشهداء" وربطوه بالشهور المصرية القديمة ـ أى أن المسيحية بدأت تستقر نسبيا فى مصر فى أواخر القرن الثالث، وكل المرحلة السابقة كانت تعانى من اضطهاد الرومان المتواصل. أى أن المسيحية لم تكن تغطى العالم قبل مجيء الإسلام كما يزعم مروجو الأباطيل ..

* وفى عام 323 قام القديس باخوم بتأسيس أول دير فى الصعيد ، وفى عام 527 قام الإمبراطور جوستينيان بإنشاء دير سانت كاترين فى سيناء، وهو ما يثبت أن المسيحية لا " تمتد إلى أكثر من ألفى عام" فى مصر كما زعم أحد مستشارى الأقباط ـ وتكفى الإشارة إلى أن السيد المسيح صُلب ، كما يقولون ، حوالى سنة 30 أو 33 م وأول استخدام لكلمة "مسيحى" فى التاريخ يرجع إلى سنة 49 م.

وخلاصة القول إن مصر لم تكن قبطية فى أى عهد من العهود ، واللغة القبطية لم تكن لغة الدولة فى أى عصر من العصور ، وإنما كانت اللغة الكنسية فيما بعد ، عندما تم الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية وحيدة فى الإمبراطورية الرومانية عام 391 م. وعند الفتح الإسلامى تسلم عمرو بن العاص البلد من الحاكم الرومانى بينما فر الأسقف هاربا يحتمى فى الصحراء ، وقد أرسل له عمرو بن العاص الأمان وأعاده إلى مكانه فى الكنيسة.. وما ساعد على انتشار الإسلام بتلك الصورة التى لا تزال تبهر الباحثين فى الغرب ، أن الفئة المسيحية فى مصر كان أغلبها يتبع مذهب الأريوسية ، نسبة إلى الأسقف أريوس السكندرى، الرافض لتأليه المسيح عليه السلام. وهو ما يتمشى مع فكرة الإله الواحد السائدة دوما فى الديانة المصرية القديمة ، سواء أكان رع أو أمون أو أتون ، وذلك بخلاف الثالوث التالى له فى القيمة والمكانة : إيزيس وأوزيريس وحوريس المأخوذة عنه فكرة الثالوث فى المسيحية لسهولة ترسيخها فى الأذهان ..

2 - "الغزو" العربى الإسلامى :

* الأنبا توماس ليس أول من قال هذه العبارة الكاشفة ، وإنما سبقه إليها الأنبا يوحنا قولتا فى كتابه الذى يفتقد إلى العلم والأمانة والمعنون "المسيحية والألف الثالثة" (2002) ، و قد تناولته فى مقال آنذاك . وما قبلهما أو ما بعدهما لا يُعد ولا يُحصى ، وإن هى إلا عملية إسقاط غير أمينة لما يقومون هم به فعلا. وإن كانت معلومات هؤلاء الأباء الأجلاء من الضحالة فى التاريخ حتى أنهم يصرون على بث فريات يتشربها أتباعهم بكل " مصداقية " ، فلا بد من توضيح التسلسل التاريخى لرسالة التوحيد ، الذى بدأ على يد موسى عليه الصلاة والسلام ، وحينما حاد اليهود عن التوحيد وعادوا لعبادة العجل وراحوا يقتّلون الأنبياء ، أتى عيسى عليه الصلاة والسلام قائلا : " وما أتيت إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة " (متّى 15 : 24) ، ويفهم منها أنه لم يأت لتنصير العالم كما يجاهد الفاتيكان الآن لفرض هذه الفرية سياسياً.. وحينما حاد النصارى عن رسالة التوحيد بتأليه عيسى وتمادوا فى الشرك باختلاق الثالوث ، أتى محمد عليه الصلاة والسلام كاشفا لكل ما تم من تحريف فى الرسالتين السابقتين ، مصوباً ومكملاً .. لذلك لا يجوز إطلاق عبارة "غزو" على المسلمين والعرب ، إذ أنها لم تطلق على يسوع عليه الصلاة والسلام حينما أتى مصوبا لتحريف اليهود ، وإنما "الفتح" بمعنى إزاحة الباطل من على نفس رسالة التوحيد واستتباب الدين الحق كما يرتضيه المولى عز وجل.

* عند ظهور الإسلام كانت المسيحية تتخبط فى معارك طاحنة فيما بين عشرات الفرق ولا يسع المجال هنا لتناولها ، ومن المؤكد أنه مع كل عملية تحريف أو اختلاق جديدة فى صلب العقيدة كانت تندلع المعارك بين الأساقفة وأتباعهم. وتكفى الإشارة إلى مجامع كارتاجنة الثلاثة فى أعوام 251 و252 و253 ، للتصدى للمسيحيين المرتدين فى الإمبراطورية الرومانية وبحث قبول أو رفض عودتهم إلى المسيحية !. أو إلى المجامع التى انعقدت لطرد وحرمان الأسقف أوطيخى أو الأسقف أريوس الذى امتد مذهبه إلى إسبانيا وإيطاليا ، وخاصة شعوب الكاتار والبوجوميل والفودوا الذين أبادتهم الكنيسة فى جنوب شرق فرنسا وشمال إيطاليا. وكلها حقائق تاريخية ثابتة تزخر بها كتب التاريخ الكنسى قبل التاريخ العالمى.. وهو ما يكشف أن حتى القرن الثالث كان العديد من المسيحيين يفرّون من المسيحية حتى أقيمت المجامع لبحث موقفهم..

* لذلك ، عندما دخل الإسلام مصر ، أولا فكرة التوحيد (الإله رع ، أو آمون ، أو آتون) كانت لا تزال سائدة بين المصريين القدماء (الوثنيين) الذين كانوا يمثلون الأغلبية آنذاك، وكانت الأريوسية هى المنتشرة بين جماعة المسيحيين ، إلى أن أتت عليها الكنيسة تقريبا ، لذلك دخل أغلب المسيحيين الإسلام لقربه من فكرة التوحيد فى ذهنهم و وضوح تعاليمه القائمة على العقل والمنطق .. فالإسلام لم يكن "غزوا " بأى حال من الأحوال وإنما تصويباً للانحراف الذى تم فى التوحيد بالله ، مثله مثل عيسى عليه السلام حينما أتى مصوبا بعد أن حاد اليهود عن التوحيد ..

3 - موقف تلك "الفئة" من الأقباط على مر التاريخ :

* تمرد " فئة " من المسيحيين ليس بجديد ، فمنذ الفتح الإسلامى وهى تشرئب من وقت لآخر بفرياتها . وفى العصور الأقرب : تعاونهم مع الصليبيين منذ أول حملة صليبية عام 1095؛ ومع الاحتلال الفرنسى سنة 1798 ، ومنهم المعلم يعقوب الذى كوّن فيلقا من الأقباط لمحاربة المسلمين مع جنود الإحتلال الفرنسى ولقبّوه بالﭼنرال .. وجرجس الجوهرى ، وملطى أنطوان، وبرتلمى (الملقب فرط الرمان) ، ونصر الله النصرانى ، وميخائيل الصباغ ، وغيرهم .. وجميهم تعاونوا مع الغزاة لإرشادهم على رجال المقاومة المسلمين لترسيخ الاحتلال .. ثم تعاونهم مع الاحتلال البريطانى عام 1882 ؛ ومع العدوان الثلاثى سنة 1956 وذهاب بعض الضباط الأقباط للمحتلين قائلين : "نحن مسيحيون مثلكم " ! وكانت فضيحة بكل المقاييس آنذاك، وغضت الدولة الطرف عنها بسرعة التعتيم عليها .. وها هم يهرولون حاليا لتقديم حجة مفتعلة للاحتلال الأمريكى ..

* افتعال الحجج المتواصل لتأجيج الموقف ، ففى كل مرة يبدأ المسيحيون ويلصقون التهم بالمسلمين، ومنها أحداث الزاوية الحمراء عام 1981، وحادثة الكشح عام 2000 ، والقس المشلوح صاحب الصور الخليعة بأسيوط عام 2001 ، ووفاء قسطنطين 2004 ، وكلها نماذج على سبيل المثال لا الحصر ولا يسع المجال لذكرها ..
* ظاهرة إلصاق كنيسة بجوار كل مسجد بصورة نشاز حتى معماريا ، فكثير منها لا يتفق حجما مع المكان الذى حُشرت فيه، بحيث قد تعدى عدد الكنائس المساجد التى كانت تتباهى بها القاهرة ذات الألف مئذنة ، وذلك لمجرد تنصير شكل البلد تمشيا مع مخطط تنصيره الفعلى الذى يقوده الفاتيكان وهيستيريا تنصير العالم التى فرض المساهمة فيها على كل الأتباع المسيحيين..

* وقائع بدعة الأديرة التى تفوق الثلاثين ديرا وكلها امتدت وتوسعت على أراضى الدولة الدائبة غض الطرف عن هذه الأفعال الإجرامية فى حقها وفى حق المسلمين، ومنها دير الأنبا أنطونيوس فى البحر الأحمر، ودير باتموس فى طريق السويس ، الذى تصدت له فرق الجيش وعادت خاسئة، ودير أبو فانا المقام على 600 فدانا فى ملوى ، وكلها أديرة عبارة عن قلاع صناعية ومخازن أسلحة مدججة بأحدث الأنواع ، والمفترض فيها أنها أماكن للاعتزال عن الدنيا والتعبد .. ولو أحصينا مساحات كل الأديرة بمصر لفاقت سعتها استيعاب تعداد المسيحيين الذى يقل يقينا عن أربعة ملايين نسمة ـ وفقا لإحصائية الفاتيكان عن مسيحيى الشرق الأوسط ..

4 – الأصولية الإسلامية :

* تكررت عبارة "الأصولية الإسلامية التى ظهرت فى مصر منذ السبعينات من القرن العشرين" فى نص المحاضرة وفى النص الدفاعى عنها عدة مرات ، ويؤكد تحديدهما أن المسألة مرتبطة فعلا بقرار تنصير المسلمين الذى اتخذه مجمع الفاتيكان الثانى سنة 1964 ، فى الدورة الخامسة ، عن دور الكنيسة وشعب الله ، فى الفقرة 16 ، وتقول الجملة : " كما أن هدف الخلاص يتضمن أيضا الذين يعترفون بالخالق ، ومن بينهم أولا وأساساً المسلمون ، الذين بممارستهم إيمان إبراهيم يعبدون معنا الإله الواحد ، الرحيم ، الذى سيحاكم الناس آخر يوم " (المجامع المسكونية، ج 3 ، صفحة 861) .. ففى الواقع أنها ليست عملية أسلمة لمصر ولكن عملية تنصير فعلى تتم بدأب لكل مصر والمسلمين ، بإصرار مكشوف الألاعيب وعدم أمانة تضع هذه الفئة محل مساءلة مثلما تضع ولاءها للوطن محل نظر !

* افتعال أحداث 11 سبتمبر 2001 لم يعد خافيا على أحد فى أنها تمت بفعل قادة البيت الأبيض للتلفع بشرعية دولية لاقتلاع الإسلام.. وقد تحججت تلك السياسة الاستعمارية الأمريكية بابن لادن لاجتياح أفغانستان ؛ وتحججت بصدام حسين لاحتلال العراق ؛ وتتحجج الآن بالنشاط النووى لاحتلال إيران ؛ وتقدم لها فئة من الأقباط بفرياتهم حجة استعمار مصر وتقسيمها .. وكلها شعوب إسلامية تحصد بالملايين وتهجّر بالملايين ، ومنها شعب فلسطين الذى يُذبح حاليا بسكين بارد ، وما من أحد يتحرك فى جميع الأحوال إلا بالشعارات والعبارات الجوفاء التى لا تؤدى إلى شئ .. فما من دولة من تلك الدول المسيحية المتعصبة تصدت عمليا لوقف السياسة الأمريكية الإجرامية الاستيطانية واندفاعها الطائش ، أو لوقف ربيبتها الصهيونية ..

وإذا ما أخذنا فى الاعتبار بعض المثالب الأخرى التى قام بها المسيحيون من ضغوط لفرض تنصير البلد شكلا وموضوعا ، لأدركنا حقيقة الموقف ، ومنها : فرض استباحة التنصير علنا ؛ فرض الاحتفال بمولد المسيح كعيد وطنى فى بلد به أكثر من سبعين مليون مسلم وأقل من أربعة ملايين مسيحى؛ فرض تنازلات دينية سياسياً على الأزهر ؛ الإصرار على تخريب اللغة العربية لغة القرآن الجامعة لكل المسلمين ؛ التوسع فى شراء الأراضى إضافة إلى ما يتم الاستيلاء عليه عنوة سواء للكنائس أو للأديرة بحيث يصبح الجزء الأكبر من الأراضى المصرية مملوكا للأقباط، وهو تكرار لما قام به الصهاينة فى فلسطين ؛ أغلبية القرى السياحية مملوكة لمسيحيين ؛ امتلاكهم ثلثى الاقتصاد المصرى رغم أقليتهم ؛ توليهم أكثر الوزارات حساسية وجنوح الاقتصاد وغيره لم يعد مجهولا ؛ فرض تغيير مشروع منزل كوبرى فيصل لكى لا يغطى كنيسة شارع مراد وفرض عمل النفق بدلا من الكوبرى العلوى ؛ تصميم عَلَمْ للأقباط وهو ما يخالف القانون صراحة : فالأقباط ليسوا فئة مهنية معينة وإنما جزء من الشعب المصرى ، وذلك يعنى أن التدابير قد تمت لتقسيم البلد إن لم يكن لتنصيرها بالكامل .. وما خفي فهو بلا شك أعظم وأشد فداحة ـ ولا أقول شيئا عن تدنى مستوى الخطاب وأكاذيبه فى المواقع القبطية!

لذلك لا يسعنى إلا التوجه إلى الأباء الأجلاء ، من أمثال الأنبا يوحنا قولتا والأنبا توماس وزكريا بطرس ومعاونيهم ، الذين يبثون فرياتهم على الأتباع وعلى الشعب المصرى إجمالا ، لتؤدى إلى إشعال الفتن وإدخال المستعمِر الأمريكى ـ الذى يغالط بشراسة ويكذب بلا خشية ولا حرج لاقتلاع ملايين المسلمين ، لأقول : ادرسوا تاريخ المسيحية التى تسعون حثيثا لفرضها على المسلمين بكل مغالطة ، واقرأوا أناجيلكم بكل ما بها من متناقضات ، وتكفى الإشارة إلى قول المسيح عليه السلام : " بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا " (متّى 5 :39) ، وكيف تستقيم هذه الآية مع قوله : " أما أعدائى أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامى " (لوقا 19 : 29) ؟!. وهى واحدة من آلاف المتناقضات .. ولا أود إضافة ارجعوا إلى أبحاث " ندوة عيسى " وما توصلت إليه من أن 82 % من الأقوال المنسوبة إليه لم يقلها ، و 86 % من الأعمال المنسوبة إليه لم يقم بها ، أو اقرأوا الخطاب - المقدمة الذى كتبه القديس جيروم ويعترف فيه بأنه غيّر وبدّل فى النصوص الإنجيلية وأن الترجمات الأخرى السابقة له باطلة لأن كلها أخطاء..

أليس من الأفضل والأكرم أن تعود مصر نسيجا واحداً ، كما كانت قبل قرار تنصير العالم، الذى افتراه الفاتيكان سنة 1965 وفرض على جميع الأتباع المساهمة فى تنفيذه ؟!.. أليس من الأكرم والأفضل أن تظل عبارة " الدين لله والوطن للجميع " هى السائدة ـ خاصة وأنتم كرجال دين أول من يعلم كيفية تطور ذلك الدين ، الذى تسعون لفرضه على الإسلام والمسلمين ، وكيف تم نسجه عبر المجامع على مر العصور ؟!

أرجو وأتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يتولى عقلاء المسيحيين ، بكل فرقهم ، ترشيد تلك "الفئة" المنساقة إلى هاوية لن تقوم بالفرز والاختيار ، وإنما ستجرف الجميع ..

ويبقى سؤال مطروح لكافة المسؤولين أيا كان موقعهم : إلى متى ستظل أجهزة الدولة بكاملها مغمضة العينين عما يحدث ، وإلى متى تستمر هذه التنازلات الخطيرة ؟!

مكتبة الإسكندرية القديمة و تدمير النصارى لها


بقلم : أ.د. زينب عبد العزيز

أستاذة الحضارة الفرنسية
دأبت المؤسسة الكنسية ، فى حربها ضد الإسلام ، على القيام بعمليات إسقاط لكل ما تعرضت له هى من مسالب أو لكل ما قامت به من هدم وتدمير لاقتلاع الآخر. ومن أشهر هذه الإسقاطات إلصاق تهمة حرق مكتبة الإسكندرية القديمة ، الذى تم فى القرن الرابع الميلادى ، إلى القائد عمرو بن العاص بناء على أمر من الخليفة عمر، أيام فتح مدينة الإسكندرية ، فى القرن السابع !

وتقول الوثيقة الوحيدة التى استندوا إليها ، وهى بقلم ابن القفطى ، فى القرن الثالث عشر الميلادى ، فى كتابه المعنون : " تأريخ الحكماء" :

" إن الخليفة عمر قد أصدر أوامره للقائد عمرو بن العاص قائلا : "فيما يتعلق بالكتب التى ذكرتها ، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففى كتاب الله عنه غنىً، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها ، فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص فى تفريقتها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها كوقود لتسخين المياه. وقد استغرق حرقها ستة أشهر كاملة ".

ولن نتناول الآن التعليق على هذه الفرية الواضحة ، ونتركها لآخر هذا المبحث ، لنعرض موضوع المكتبة منذ بدايته وكما تتناوله الوثائق الغربية المنصفة.

لم تكن الإسكندرية آنذاك مجرد مدينة مزدهرة ، وإنما كانت بمثابة حضارة مكتملة ، بمعنى أنها كانت تضم تلك الإنجازات التى يتركها عظام الرجال فى مجتمع تتعدى أبعاده نطاق الجغرافيا. فالنطاق التاريخى الواقع بين الفترة التى تم فيها تأسيس هذه المدينة على أيدى الإسكندر الأكبر ، سنة 332 ق.م. ، إلى الفترة التى تم فيها تدميرها على أيدى الأسقف تيوفيلوس والقساوسة التابعين له ومن بعدهم ، فى القرن الرابع الميلادى ، يعد بمثابة حقبة زمانية متفردة فى ازدهار علومها.
فقد كانت مدينة الإسكندرية تمثل عالما بأسره وأسلوب حياة فنية وفكرية وعلمية مترابطة الأركان. ونطالع فى موسوعة أونيفرساليس : " أن يكون المرء سكندريا لم يكن يعنى أنه من مواطنى هذه المدينة فحسب، وإنما يعنى الانتساب إلى قيم حضارية فى عاصمة البطالمة ، خلفاء الإسكندر فى مصر ".. فقد كان لها أهمية كبرى أيام الرومان ، وكان لها موقعا خاصا وآثارا تميزها. بل أضفت عليها شهرتها العديد من المسميات ، ومنها : الجميلة ، شديدة الجمال ، خالدة الذكرى ، المَلَكية ، الشديدة البريق.. وكانت أكثر الصفات استخداما " الكبرى".. وقد ازدهرت بها علوم الرياضيات والفلك والهندسة إلى جانب تألق المدارس الفكرية والفلسفية – وكلها مجالات تواصلت اعتمادا على ما كانت الحضارة المصرية القديمة قد وصلت إليه.

فمنذ بداية النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد ، أيام بطليموس الأول ، امتلأت الإسكندرية بالمبانى الرائعة واكتمل شكلها المعمارى الذى حافظت عليه حتى نهاية العصور القديمة ، بحدائقها الغناء ومبانيها اليونانية الطابع . وفى حى القصور، الذى كان يفترش ربع المدينة تقريبا ، تم تشييد القصر الملكى على البحر، والمتحف والمكتبة الشهيرة ، والسوما – قبر الإسكندر الأكبر، والسيرابيوم، المعبد المقام للإله اليونانى المصرى سيرابيس ، ومعبد إيزيس ، والسوق ، والمسرح . بينما الفنار المشيد على جزيرة فاروس يكمّل تلك الروائع المعماية.

وكان بطليموس الأول قد أمر بتشييد "الميوزيوم" ، أى قصر ربات الفنون، الإلاهات التسع الشقيقات المُلهمات للغناء والشعر والفنون والعلوم والميثولوجيا الإغريقية، عام 288 ق.م. وكان يضم جامعة ، وأكاديمية علمية ، والمكتبة الشهيرة التى كانت تحتوى على سبعمائة ألف مخطوطة. وكان قد طلب من كل البلدان الشهيرة أن ترسل له أعمالا لكافة المؤلفين وأمر بترجمتها إلى اليونانية. كما كان يطلب من البواخر التى تتوقف بميناء الإسكندرية أن تسمح بأن يتم نقل وترجمة ما تحمله من كتب .. فكانت النسخ تعاد إلى البواخر ويتم الاحتفاظ بالأصل فى مكتبة الإسكندرية.

وأصبح "الميوزيوم" مركزا علميا عالى المستوى ، يؤمه كافة العلماء ، حيث يجدون كل ما يحتاجون إليه. وكانت عملية ترجمة كل هذه الأعمال إلى اليونانية تمثل عملا ضخما ، استحوذ على كافة مثقفى البلد تقريبا. فقد كان يتعيّن على هؤلاء الأشخاص إتقان لغتهم الأم إضافة إلى إتقان اليونانية. وعند امتلاء المكتبة تم تشييد ملحق لها قرب الميناء ، وهذا الملحق امتدت إليه النيران عام 47 ق. م. ، عندما قام يوليوس قيصر بحرق أسطول الإسكندرية.

ومن أشهر من قام بإدارة هذه المكتبة ، الفلاسفة زينودوت الأفسوسى ، وأرستوفان البيزنطى ، وأريستارك الثاموتراسى ، وأبوللونيوس من رودس . وكان آخر من تولى إدارتها هو العالم ثيون (Théon) ، والد عالمة الرياضيات والفليسوفة الشهيرة هيباثيا التى كانت تدير مدرسة الأفلاطونية الجديدة بعد أفلوطين، و قام القساوسة بقتلها ..

فقد رجمها القساوسة عام 415 بناء على أمر الأسقف سيريل ، الذى جعلته الكنيسة قديسا سنة 1882 ، وماتت بأبشع طريقة انتقاما منها ومن علمها. ويقول سقراط القسطنطينى (380 – 450 ) المؤرخ المسيحى ، الرومانى الجنسية، والمتخصص فى التاريخ الكنسى : "إن القساوسة انتهزوا فرصة مرورها بعربتها وجرّوها عنوة و سحلوها ثم أدخلوها الكنيسة ونزعوا عنها ثيابها وضربوها بالهروات والأوانى ثم مزقوا جسدها ووضعوا تلك الأجزاء فى كيس وصعدوا بها إلى "السينارون" وأحرقوها. مما أثار الانتقادات ضد الأسقف سيريل وكنيسة الإسكندرية، إذ كان الموقف فى غاية الإحراج لمن يقولون أنهم أتباع يسوع ويقومون بتلك المجازر والاغتيالات. وقد حدث ذلك فى العام الرابع من ولاية سيريل ، والعام العاشر من حكم هونوريوس ، والعام السادس من حكم تيودوز، فى شهر مارس أيام الصيام " ، (وارد فى كتاب "التاريخ الكنسى" ، ج7 ، ص 14، ترجمة رومان تلميذ هيبوخانى).. ويا له من احترام لشعائر الدين الذى يفرضونه بالقتل والحرق !

وكانت المعارك بين المسيحيين والوثنيين قد بدأت حتى من قبل أن يسمح لهم الإمبراطور قسطنطين ، عام 313 ، بممارسة مسيحيتهم مثل باقى العبادات فى الدولة. وفى مطلع القرن الثالث كف تعليم اللغة الهيروغليفية فى مصر واختفى علم التحنيط . ويبدو بكل أسف ، كما نطالع فى موسوعة فيكيبديا، " أن دخول المسيحية مدينة الإسكندرية قد محى ذاكرة مصر تماما " !..
ومع فرض المسيحية ديانة رسمية ووحيدة للإمبراطورية الرومانية فى عام 391 ميلادية ، زادت المعارك بين الأسقف أريوس والأسقف أطنازيوس، القريب من السلطة ، حول طبيعة السيد المسيح. و وصل اضطهاد الوثنيين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تم هدم كافة المعابد والتماثيل فى كل الإمبراطورية ، ومُنعت الطقوس الدينية الوثنية كلها بينما تزايد النفوذ المسيحى بصورة كاسحة.

ويقول هنرى مونييه فى كتابه عن مصر البطلمية : أيام قسطنطين ، الذى حكم من 323 إلى 337 ، كان معبد السيرابيوم فى الإسكندرية فى أوج تألقه كما كان يُعد قلعة العالم الهللينى. وقد قرر قسطنطين وقف الاحتفالات الوثنية التى كانت تقام فيه بسبب عداء الكهنة الشديد للمسيحيين. بل لقد أغلق المعبد فى يوليو 325م ، وهو نفس العام الذى تم فيه تأليه السيد المسيح . وبذلك بدأ أول هجوم على السيرابيوم، ذلك الهجوم الذى واصله تيوفيلوس أسقف الإسكندرية بشراسة حتى أتى عليه.

فقد جعل ذلك الأسقف مهمته الأساسية هى اقتلاع الوثنية من مصر ، خاصة وأن الوثنيين كانوا لا يزالون أقوياء فى تلك الفترة ويهزأون من خصومهم. وكان السيرابيوم هو مكان تجمعهم مثلما كان محراب عبادة سيرابيس منذ أيام البطالمة الأوائل. وتحول المعبد بعد ذلك ليصبح مدرسة شهيرة تتواصل فيها تعاليم الأفلاطونية الحديثة بفضل هيباثيا التى طالعنا مصيرها..

وما أن وصل قرار الإمبراطور بإلغاء العبادة الوثنية حتى تزعم الأسقف تيوفيلوس القيام بإجراءات استفزازية ضد الوثنيين ، اندلعت على إثرها مظاهرة عارمة. " فما كان منه إلا أن تزعم بنفسه عصابة من الرهبان المسيحيين، على حد وصف هنرى مونييه ، واستولى على حصن الإسكندرية العلمى وقام بنفسه بتحطيم تمثال الإله سيرابيس ، تحفة الفنان المبدع برياكسيس ، وجعل أتباعه يسيرون فى المدينة بأجزائه المحطمة. وعانت باقى المعابد من نفس المصير"..

"ولم يكن هدم السيرابيوم إلا حلقة فى سلسلة طويلة من الدمار الذى تمخضت عنه المسيحية فى صراعها الشرس ضد الوثنية " ، ويواصل مونييه قائلا: " إن هذا الحدث كان له أصداء واسعة بسبب تزعم الأسقف تيوفيلوس له ، ويقول العديد من المؤرخين أنه افتعل هذه المظاهرة بالتواطؤ مع إيفاجريوس ، حاكم الإسكندرية الرومانى ، استنادا إلى قرار الإمبراطور تيودوز" (صفحة 37 ). أما باقى المعابد التى لم يتم هدمها فقد تم تحويلها إلى كنائس.

ومن الغريب أن هذا الأسقف ، تيوفيلوس السكندرى، المتوفى عام 412 ، وكان من المدافعين بشدة عن تأليه يسوع ، والذى يحاول البعض تبرأته بإلصاق وحشية أفعاله التدميرية بالمسلمين ، هناك مخطوطة من القرن الخامس تصوره وهو يقف أعلى معبد السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية التى أحرقها ! والصورة تمثله وهو ممسك بنسخة من الكتاب المقدس ، ويقف منتصرا على ما دمره، ويُرى الإله سيرابيس داخل المعبد. ويوجد هذا الرسم على هامش حولية مسيحية كتبت فى الإسكندرية فى القرن الخامس الميلادى. أى أنه حتى ذلك الوقت كان معروفا وسائدا أن الأسقف تيوفيلوس هو الذى دمر السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية .. ورغمها ، يواصل المحرفون فرياتهم !

والنبذة القصيرة التى نطالعها فى المجلد الرابع لفهرس موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (1996) عن تيوفيلوس السكندرى تقول : " تيوفيلوس ، أسقف الإسكندرية من 384 إلى 412 . وقد قام بدور من الدرجة الأولى فى السياسة المدنية والكنسية فى عصره. فقد توصل ، بالاتفاق مع الإمبراطور ، وبالقيام بالعديد من المعارك الدامية ، إلى اقتلاع الوثنية من مصر وذلك بهدم المعابد الوثنية ( ومنها السيرابيوم ، عام 391) وبإقامة المبانى المسيحية بدلا عنها. إن الدور الذى لعبه فى المعركة المتعلقة بأوريجين وموقفه من يوحنا كريزوستوم (أى الفم الذهبى ، لفصاحة لسانه) ، جعل المؤرخون ينتقدونه بشدة. فبعد أن ظل لفترة من الوقت مؤيدا لأتباع أوريجين ، تغير موقفه فجأة وقام بمهاجمة الرهبان التابعين لأوريجين فى صحراء وادى النطرون وإجبارهم على المنفى. واضطرته هذه القسوة إلى الذهاب للدفاع عن نفسه فى القسطنطينية ، حيث كان قد لجأ إليها قرابة خمسين راهبا كانوا فارين منه. وقد وصل تيوفيلوس محاطا بتسع وعشرين أسقفا مصريا ونجح فى كسب معركته بفضل العديد من معارفه فى البلاط الإمبراطورى ، مطالبا عام 403 باستدعاء يوحنا كريزوستوم للمثول أمام المجمع. وأدت هذه الأحداث إلى النفى النهائى ليوحنا عام 404. إلا أن البابا إينوست الأول قد اعترض بعد ذلك على هذه الإدانة دون أن يتمكن من تبرئة يوحنا ، وقام بحرمان تيوفيلوس الذى كان قد نسج هذه المؤامرة عن طريق وسائل عديمة الشرف " (صفحة 3593) ..

وتكشف هذه النبذة ، التى أوردناها بكاملها ، عن مدى عدم أمانة القائمين على تلك المسيحية التى كانوا ينسجونها عبر المكائد والمؤامرات ، وكيفية الإطاحة لا بالخصوم الوثنيين فحسب وإنما بنفس القائمين معهم على ذلك الدين !!

ومن الوثائق الغربية القديمة ، يورد الباحث جى دفيتش فى كتابه عن "حرب المخطوطات" أن المؤرخ اللاتينى ليبانيوس Libanios) ) أورد فى كتابه المعنون " من أجل المعابد" ما يلى : " من أكثر المندفعين حماسا فى حرب الجبابرة هذه هم الرهبان الذين كانوا يجوبون المقاطعات حاملين الهروات والروافع والشواكيش ليقوموا بكسر التماثيل وهدم المذابح والمعابد (...) وفى عام 391 قام تيوفيلوس أسقف الإسكندرية على رأس عدد من أتباعه المسيحيين بغزو معبد السيرابيوم وهدمه بعد أن سرقوا ما به ولم يتركوا إلا قاعدة المعبد لضخامة أحجارها".. (ترجمة رنيه فان لوى ، بيزنطة، المجلد السابع ، طبعة 1933).

وإضافة إلى قرار الإمبراطور تيودوز الصادر عام 393 م ، والذى ينص على استكمال عملية اقتلاع الآخر ، قائلا : " إننا نريد أن يتم هدم كافة المعابد والآثار الوثنية التى لا تزال قائمة ونأمر بأن يتم محو ذلك الدنس بإقامة العلامة المبجلة للديانة المسيحية ، وسنحكم بالموت على كل من يخالف أمرنا هذا عن طريق القضاة المتخصصون" (Cod. Théo. XVI, p.125 ) . وإضافة إلى قرار تيودوز هذا ، هناك قرارات العديد من المجامع المسيحية التى تنص على مواصلة عملية الاقتلاع ومنها مجامع المدن الفرنسية التالية : آرل عام 573 ، و نانت عام 668 ، وروان عام 687 ، وخاصة ما قام به الإمبراطور شارلمان الذى اقتلع ما بقى من وثنية بصورة وحشية حتى وصفه المؤرخ آرثر كمب فى كتابه المعنون : "مسيرة الجبابرة" ، بأنه " قد مارس التبشير بالقتل العرقى". وهو ما يوضح بأية وسائل تم فرض المسيحية فى كل الأماكن التى دخلتها ..

وفى كتاب بعنوان " شمس الله تشرق على الغرب" ( 1963 ) ، تقول الباحثة الألمانية سيجريد هونكه (S. Hunke): " إن القرن الثالث يفتتح سلسلة من أعمال الهدم المنهجية ، إذ قام الأسقف المسيحى بإغلاق الموزيوم وطرد كل المثقفين منه. وفى عام 366، تحت حكم الإمبراطور البيزنطى فالنس ، تم تحويل السيزاريوم إلى كنيسة ، وحرق مكتبته بعد نهبها ، ومطاردة فلاسفتها بتهمة ممارسة السحر. وفى عام 391 طلب الأسقف تيوفيلوس من الإمبراطور تيودوز الموافقة على هدم مركز حج القدماء وآخر قلعة علم باقية ، السيرابيوم ، والقيام بحرق مكتبته. وبذلك ضاع من الإنسانية إلى الأبد كنز لا يمكن تعويضة " (صفحة 217 ).

ويواصل الباحث بعد ذلك قائلا : " إلا أن أعمال الهدم التى يقوم بها المسيحيون المتعصبون لم تتوقف عند ذلك. إذ أن صديق الأسقف سيفيريوس من إنطاقيا يعترف بلا خجل أنه والأسقف قد كانا فى شبابهما أعضاء فى جمعية مسيحية شديدة النشاط فى الإسكندرية فى القرن الخامس ، وقاما هما الاثنان بمعارك شرسة ضد المثقفين الوثنيين وهاجموا معابدهم وقاموا بتكسير تماثيلها وكل منشئاتها. وبذلك اختفت معالم الثقافة الهللينية الواحدة تلو الأخرى. وفى عام 529 م تم إغلاق آخر مدرسة للفلسفة فى أتينا ، وفى عام 600 تم حرق المكتبة المسماة "الإمبراطورية" التى أسسها أغسطس فى روما. وتم منع قراءة الأعمال الكلاسيكية و دراسة الرياضيات وهدم المتبقى من أبنية العبادات القديمة" (صفحة 218).

أى أن عمليات الهدم والحرق فى محاولة دؤوبة لاقتلاع الآخر من جذوره لم تتم فى مدينة الإسكندرية وحدها وإنما تواصلت فى كل البلدان التى امتدت إليها المسيحية .. وتوضح سيجريد هونكه فى نفس الصفحة قائلة : " وعندما دخل العرب مدينة الإسكندرية عام 640 ، لم يكن بها أية مكتبة عامة. أما حريق المكتبة الكبرى السكندرية والذى تم إلصاقه بعد خمسة قرون بالقائد عمرو ، فالعديد من الأبحاث الدقيقة سمحت بتأكيد أن هذه مجرد فرية ، ويا لها من فرية حقيرة.. وكم كانت سعادة من افتروها لاتهام "البرابرة" ! والعكس هو الصحيح ، ففى مسيرته الفاتحة المنتصرة ، قدم فاتح الإسكندرية العديد من النماذج على عظمة التسامح لديه ، فقد منع القيام بنهب وهدم المدن ، ثم ، ويا لعظمة وغرابة ما أقدم عليه : فقد سمح لرعاياه الجدد بممارسة عبادتهم التقليدية " .. أى إن المسلمين لم يقوموا بأية عملية لاقتلاع الآخر وسمحوا للمسيحيين واليهود بممارسة عباداتهم!

ويقول الفونس دان (A. Dain) فى كتابه المعنون " المخطوطات" (1980): " يقال عادة أن جنود الخليفة عمر أحرقوا معبد السيرابيوم وما كان يضمه من مكتبة شهيرة فى هذه المدينة. وقد صدّقت تلك المقولة أنا شخصيا، إلا أنه يجب علىّ أن أعترف بخطئى ، إذ ما أن رحت أتبين الأمر حتى وجدت أن من قام فعلا بحرق مكتبة الإسكندرية هم مسيحيو الأسقف تيوفيلوس. وهنا لا بد من توضيح أنه كان بالإسكندرية مكتبتين : مكتبة البروخيون ، وكانت فى وسط المدينة ، وقد هدمها أورليان سنة 273 حينما استولى على المدينة ، ومكتبة السيرابيوم ، التى هدمها الأسقف تيوفيلوس عام 391 . ويقول القس أوروز ، مؤلف " كتب ضد الوثنيين" عام 417 ، أنه عند مروره بالإسكندرية رأى " دواليب الكتب التى أفرغها رجالنا من محتوياتها" ( الكتاب السادس ، الفصل الخامس عشر) ، وهذه الملاحظة سابقة على الفتح الإسلامى الذى حدث فى منتصف القرن السابع " ( صفحة 189 ).

وما يؤكد أن الحرق والتدمير كان من عادة المسيحيين ووسيلتهم فى فرض عقيدتهم ، القرار الذى أصدره تيودوز الثانى والذى ينص على : " حرق كل ما كتبه بورفير أو غيره ضد عبادة المسيحيين المقدسة لكى لا تقوم هذه الأعمال بإغضاب الرب " ، وارد فى وثيقة : Codex Theodosianus XVI,6,66 ) ). كما قام البابا جريجوار الأكبر (590 – 604 ) بحرق المكتبة المعروفة باسم "الإمبراطورية" فى روما. لذلك يقول جى دفيتش : " لقد تم تنصير التاريخ بالتدريج بخطوات متتالية منذ القرن الثانى، وتواصلت عمليات الهدم والحرق والإبادة ليبدأ ما أُطلق عليه "العصر الأسود" الذى امتد ألف عام " – ويقصد عصر الظلمات الذى شاهد محاكم التفتيش والحروب الصليبية والحروب الدينية وتحريم العلم ومحاربة العلماء – وهو ما يتمشى قطعا مع نفس منهج حرق المكتبات وتدمير المعابد !

وكذلك تم حرق كل الأعمال التى كانت تتضمن الصراعات اللاهوتية مثل أعمال سيلسيوس وبورفير وحاكم بيت عانية والإمبراطور جوليان ، وما بقى منها فهو معروف من الأجزاء المذكورة كاستشهاد فى الرد عليها !

وقد أورد المؤرخ إدوارد جيبون : " أن من حرق مكتبة الإسكندرية هو الأسقف تيوفيلوس ، العدو اللدود للسلام والفضيلة ، ذلك الجرىء الشرير ذو الأيادى الملطخة بالدماء والذهب على التوالى، وهادم السيرابيوم " (قفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية ، الفصل 28 ).

وعلى أواخر القرن الرابع وصل اضطهاد الوثنيين إلى ذروته ، فقد تم هدم معظم المعابد ، كما قد تم حرق وهدم باقى المكتبات الخاصة ، وتمت محاربة العلوم والرياضيات والفلسفة وتم إغلاق المدارس الفكرية ليبدأ عصر اضمحلال رهيب فى مدينة اشتهر صيتها عبر العالم القديم كمنارة للعلم والتقدم.. فممن عملوا فى مكتبتها الشهيرة ونهل من دررها لمدة عشرين عاما ، المؤخ استرابون وغيره..

أما عن ذلك النص العربى المزعوم ، فأول ما نبدأ به هو رأى المؤرخ إدوارد جيبون ، فى نفس مرجعه السابق الذكر، حيث يقول : " إن قرار الخليفة عمر يتناقض مع المبادىء الأصلية والسلمية لعلماء المسلمين ، الذين يرفضون قطعا حرق أية نصوص دينية يهودية أو مسيحية تم الاستيلاء عليها فى المعارك الحربية ".. وهذا مجرد تعليق منطقى واحد ، يتمشى مع كل ما يقوله الأمناء من علماء الغرب المسيحى عن أخلاقيات المسلمين وتصرفاتهم فى البلدان التى حكموها.

وإذا ما نظرنا فيمن قال هذه المعلومة ، وهو جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطى ( 568 هـ /1172م ـ 646هـ /1248م ) ، لوجدنا فى موقع "المكتبة الوطنية لعلم الطب " فى مدينة أوكسفورد البريطانية : " أن له 26 مؤلفا ، لم يبق منها سوى اثنين ، أحدهما "تأريخ الحكماء" الوارد فيه هذا النص ، غير أن هذا الكتاب ليس النص الأصلى وإنما تلخيص له بقلم الزَ وْ زَنى . والكتاب يضم 414 سيرة ذاتية مختصرة لأطباء وفلاسفة وعلماء فلك ، إضافة إلى العديد من الاستشهادات المأخوذة عن كتّاب يونانيين لم يحتفظ بها فى الكتاب الأصلى " ! وتحتفظ المكتبة الوطنية لعلم الطب بنسخة منه تحت رقم ( Ms A 72 ). وقد قام بترجمته إلى الألمانية و طبعه العالم يوليوس ليبّرت فى مدينة لايبزيج سنة 1903.

وبعد خمس سنوات ، أى فى عام 1908 ، طبع لأول مرة بالعربية على نفقة أحمد ناجى الجمالى ومحمد أمين الخانجى وأخيه ، بعنوان " تأريخ الحكماء" ، وهو مختصر الزَوْزَنى المسمى بالمنتخبات الملتقطات من كتاب " إخبار العلماء بأخبار الحكماء" ، وقد تمت مراجعته على كتاب ليبرت.

أما السياق الذى أتى فيه هذا الاستشهاد فلا يقل افتراء فى مغزاه من الفرية نفسها ، إذ يقول النص أن الأسقف يحيى النحوى قد طلب من عمرو بن العاص أن يعطيه الكتب التى فى المكتبة قائلا : " قد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها " !

أى إن الأسقف وأعوانه ، والغارق معهم فى الصراعات الدينية حول التثليث ، وفقا لما هو وارد فى نفس صفحة القفطى ، هم يقدرون العلم و بحاجة إلى الكتب لصونها من الضياع ، وأما المسلمون الجهلاء فقاموا بتدميرها !!

ومن الواضح أن النص المزعوم الوارد فى كتاب القفطى كان عبارة عن استشهاد من الاستشهادات المنقولة عن أحد اليونانيين المسيحيين ، الذين يعنيهم تبرئة بنى جلدتهم من كل ما اقترفوه من حرائق وتدمير واقتلاع لتراث حضارة بأسرها. خاصة و أن الفترة التى كان فيها ابن القفطى على قيد الحياة أو حتى السنة التى تم فيها عمل نسخة من ذلك الكتاب بعد وفاته بعام ، بقلم الزَوْزَنى ، فهى تقع فى قلب فترة الحروب الصليبية بكل ما واكبها من محاولات للنيل من الإسلام والمسلمين..

وإذا ما نظرنا من الناحية الدينية الإسلامية ، لأدركنا لا معقولية هذه الفرية ، فقد بدأ تنزيل كتاب الله العزيز بفعل أمر ، وهو : " اقرأ "، كما أن ثانى سورة أُنزلت هى سورة " القلم " .. أى إن أولى خطوات الرسالة الإسلامية بدأت بالحث على القراءة والكتابة ، على دراسة الكتاب المسطور والكتاب المنظور فى رحابة الكون على اتساعه .. فكيف يمكن لعاقل أن يعقل فرية أن يقوم سيدنا عمر، وهو من صاحَبَ رسولنا الكريم ، صلوات الله عليه ، بأن يتفوه بمثل هذا الجُرم – لا فى حق العلم والعلماء فحسب ، ولكن فى حق الدين الذى عاصر نشأته ، وواكب أولى خطواته ، وعمل على انتشاره ؟!
منقول من موقع التاريخ

الجمعة، 31 أكتوبر 2008

الفاتيكان يجري اختبارات جنسية للقساوسة


أحمد التلاوي - وكالات

الفضائح الجنسية لرجال الدين الكاثوليكأجبرت الفاتيكان على إصدار الوثيقة الجديدة أصدر الفاتيكان توجيهات بضرورة خضوع الأشخاص الراغبين في العمل في السلك الكنسي لاختبارات جنسية بـ"شكل تطوعي"، لمعرفة مدى سيطرتهم على سلوكهم الجنسي، وذلك في مسعى منه لمعالجة الآثار المترتبة على فضائح الاعتداءات الجنسية التي هزت الكنيسة في السنوات الأخيرة.
في المقابل أعلنت جماعة تضم ضحايا الاعتداءات الجنسية لرجال الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة أن هذه التعليمات "ليست كافية.. لن توقف ارتكاب اعتداءات جديدة من قِبَل رجال الدين الكاثوليك".
وبحسب صحيفة "ذي تايمز أوف إنديا" فإن الوثيقة الجديدة التي شملت هذه التوجيهات هي الثانية في غضون ثلاث سنوات.
طالع أيضا:
الخطايا تكلف كنيسة لوس أنجلوس 660 مليون دولار

وقالت الصحيفة الهندية إن الكشف المبكر في بعض الأحيان عن العيوب النفسية للرجال قبل أن يصبحوا كهنة من شأنه أن يساعد على تفادي بعض التجارب المأساوية التي جرت في السنوات الماضية، وبخاصة في النمسا وأستراليا والأمريكيتين.
وقالت وثيقة الفاتيكان الجديدة التي نشرت الخميس في 15 صفحة إن عمداء المعاهد الدينية وغيرهم من المسئولين الكنسيين سوف يقومون بالاستعانة بخبراء من الخارج إذا لم يتمكنوا من الفحص بأنفسهم.
وأشارت الوثيقة إلى أن الفحص "واجب على الكنيسة" للتعرف على مدى ملائمة المرشحين للعمل الكهنوتي.
تحت وقع الفضائح
ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن أحد كبار رجال الكنسية الكاثوليكية في الفاتيكان قوله: "إن سلسلة الفضائح الجنسية التي هزت الكنيسة أجبرت الفاتيكان على إصدار هذه التعليمات".
وأشار القائمون على إصدار هذه التعليمات إلى أن هذه الاختبارات ستساعد في تلافي مواجهة ما وصفوه بـ"أوضاع محزنة" ناجمة عن "الخلل النفسي" لدى بعض رجال الدين الكاثوليك.
كما تهدف الاختبارات إلى تحديد الذين لديهم "ميول جنسية مثلية عميقة".
وبحسب التعليمات الجديدة فإنه من بين الأشخاص الذين قد لا يسمح لهم بالعمل في صفوف الكهنوت الكنسي الكاثوليكي الأشخاص الذين تدور شكوك حول "صفتهم الجنسية، وذوو الشخصيات الصارمة جدا والعاطفية جدا".
كما سيحظر على الأشخاص العاجزين عن عيش "حياة العزوبية" العمل في صفوف الكنيسة، وأيضا من يمكن أن تكون العزوبية بالنسبة له "مصدر متاعب وصعبة"؛ بحيث يمكن أن تؤثر على توازنه لدى إقامته علاقات مع الآخرين.
كما أنه سينبغي على رجال الكنيسة أن يمتلكوا "هوية جنسية ذكورية إيجابية مستقرة"، بحسب الوثيقة التي أشارت إلى أن هذه الاختبارات "تطوعية".
وكلفت اعتداءات جنسية تورط فيها رجال دين تابعون للكنيسة الكاثوليكية مئات الملايين من الدولارات في السنوات الماضية دُفِعَت كتعويضات لضحايا هذه الاعتداءات.
بالإضافة إلى الثمن الأخلاقي المتمثل في الانتقادات الواسعة التي تم توجيهها إلى الكنيسة الكاثوليكية على الإثر، وبخاصة مع ظهور حالات استغلال جنسي لأطفال من جانب رجال الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا وأمريكا.
وأُغلق معهد خاص بإعداد رجال الكنيسة في النمسا عام 2004 بعدما تبين أن الطلاب أقاموا علاقات جنسية فيما بينهم بشكل علني.
واتهمت الجماعات المدافعة عن الشواذ جنسيا الكنيسة الكاثوليكية باستخدام معارضتها لزواج الشواذ للتستر على فضائحها الجنسية.
"ليست كافية"
وفي تعليقها على خطوة الفاتيكان قالت جماعة أمريكية تضم ضحايا مثل هذه الاعتداءات في الولايات المتحدة إن هذه التعليمات "ليست كافية" ولن تمنع تكرار مثل هذا الأمر.
وقالت الجماعة في بيان لها: "إن مسئولي الكنيسة الكاثوليكية مستمرون بمهادنة المعتدين وتجاهل المشكلة الأساسية، ألا وهي استمرار ثقافة السرية الراسخة دون تغيير، والسلطة غير المقيدة في هرم السلطة الكنسية".
وأضافت الجماعة أن هذه العوامل مغروسة في الكنيسة، وتلعب دورا أساسيا في استمرار حدوث اعتداءات جنسية من قبل رجال الدين، و"التستر عليها".
وبحسب "بي بي سي" فإن حوالي 25% من الأمريكيين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية التي تشهد تطورات وتغيرات عديدة في انتشارها وعدد كنائسها، مع وصول أعداد كبيرة من المهاجرين من أتباعها من بلدان أمريكا اللاتينية إلى هناك.

الأحد، 26 أكتوبر 2008

الكتاب المقدس ذلك المجهول

ازدادت خلال العقد الماضي الدعوات إلى الحوار بين الأديان، كما شهدت جهود التبشير إلى الديانة المسيحية طفرة كبيرة.
ويجد المتخصص نفسه أمام واجب تعريف الناس عامة والنخب -ممن ليس لديهم إلمام بمثل هذا الموضوع- خاصة، بأهمية التعرف على ثقافة الآخر ومعتقداته، فإذا كان علينا أن نتحاور مع الآخر من ناحية، فإنه يتوجب علينا توفير هذه المعرفة التي تنير طريق من يتصدى للحوار.
ويمكن النظر إلى ما نقدمه عبر هذه الأسطر على أنه شكل من أشكال تبسيط العلوم، ونقصد هنا علم دراسة الاتجاهات النقدية للكتاب المقدس عامة وللعهد القديم على وجه الخصوص.
ألف باء الكتاب المقدس
يتكون الكتاب المقدس من قسمين كبيرين هما العهد القديم والعهد الجديد؛ وبينما يعد العهد القديم وحده المرجعية الدينية لليهود إلى جانب التلمود، فإن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هو المرجعية الدينية للمسيحيين في العالم.
وتسمية العهد القديم هي تسمية مسيحية في الأساس بدأت عندما صار للمسيحيين كتابهم المقدس الذي سموه "العهد الجديد"، ومن ثم فقد أطلقوا على الأسفار القديمة التي اعتقد اليهود في قدسيتها اسم "العهد القديم"، وكان ذلك حوالي عام 200 م.
وقد رفض اليهود بالطبع هذه التسمية؛ لأنها كانت تعني أن كتابهم المقدس أصبح في محل النسيان بعد ظهور العهد الجديد. لكن على كل حال فقد أصبحت تسمية العهد القديم والعهد الجديد شائعة الاستخدام إلى الدرجة التي تجعل من الصعب تجاوزها.
ويتكون العهد القديم من ثلاث مجموعات أساسية هي:
التوراة وتتضمن خمسة أسفار هي: (التكوين والخروج والعدد واللاويين والتثنية)، ويطلق عليها الباحثون تسمية "أسفار موسى الخمسة"؛ حيث ينسب التراث اليهودي واللاهوتيون المحافظون كتابة هذه الأسفار إلى موسى عليه السلام.
والمجموعة الثانية هي: الأنبياء، وهذه تشتمل على مجموعتين فرعيتين هما: الأنبياء الأوائل وتتضمن ستة أسفار هي: (يشوع والقضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني والملوك الأول والملوك الثاني)، ويطلق أيضا عليها اسم "الأسفار التاريخية"؛ إذ إنها تغطي تاريخ بني إسرائيل القديم منذ موت موسى عليه السلام وحتى ما بعد عام 586 ق.م. بقليل.
والأنبياء الأواخر وتتضمن خمسة عشر سفرًا هي: (إشعيا، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونا، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا، ملاخي).
أما المجموعة الثالثة فهي المكتوبات وتتضمن ثلاثة عشر سفرا هي: (المزامير، أيوب، الأمثال، راعوث، نشيد الأناشيد، الجامعة، المراثي، إستير، دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام الأول، وأخبار الأيام الثاني)؛ وبالتالي فإن مجموع هذه الأسفار يصل إلى تسعة وثلاثين سفرا.
وقد نشأ حول هذه الأسفار أدب نقدي منذ أقدم العصور، وأسهم الجدال الذي دار بين أحبار اليهود في عصر كتابة التلمود (بداية من القرن الثاني الميلادي) إلى تأسيس بدايات هذا النقد، وخلال العصر الإسلامي قدم المسلمون إسهامهم الكبير بداية من ابن قتيبة وعلي بن ربن في القرن التاسع، وبلغ النقد الإسلامي ذروته من خلال أعمال ابن حزم الأندلسي في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" وتبعه السموأل المغربي، وتأثر اليهود في الأندلس بهذه الأعمال النقدية فنشأ لديهم أدب نقدي حول العهد القديم أيضا (من القرن الحادي عشر وحتى القرن الثالث عشر).
وخلال العصر الحديث شهد علم نقد العهد القديم طفرة كبيرة بدأت منذ أواخر القرن السابع عشر على يد الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا. لكن الخطوات الأكبر بدأت خلال القرن التاسع عشر مرورًا بالقرن العشرين؛ حيث تنوعت وتعددت مناهج ومدارس نقد العهد القديم على يد الباحثين الغربيين الذين اتهموا بالكفر والفسق من قبل المؤسسات الدينية المسيحية.
النقد اليهودي للعهد القديم
هناك نصوص في العهد القديم وردت أساسًا لكي تعدل أفكارا قديمة وردت في نصوص العهد القديم الأقدم زمنا؛ ومن بين الأمثلة على ذلك ما جاء في سفر الخروج 34: 7 والذي يتحدث عن أن الأبناء يتحملون ذنوب الآباء، وهذا الأمر يمتد إلى أربعة أجيال "مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع"، وهذا النص هو نص قديم جاء حزقيال فيما بعد ليعدله، وليتحدث عن مسئولية كل واحد عن أعماله وحده، وأنه لا يحاسب سوى عما اقترفت يداه "النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن. بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون" (حزقيال 18: 20)، وهذا الأمر هو إعمال لمبدأ المسئولية الفردية.
وينظر الدارسون للعهد القديم إلى هذه الإشارة وغيرها على أنها شكل من أشكال نقد العهد القديم التي وردت داخل العهد القديم نفسه؛ حيث حرص الأنبياء المتأخرون على تنقيح الرؤى القديمة وتعديلها.
وقد أشار التلمود إلى محاولات مبكرة لإخفاء بعض الأسفار قام بها جامعو أسفار العهد القديم الذين حرصوا على توحيد النظرة الدينية للعديد من الأمور مثل فكرة الألوهية، والسعي لتوحيد مفهومها. وهؤلاء وجدوا أن بعض الأسفار تعرض رؤية مخالفة عن الإطار العام لأسفار العهد القديم، ومن ثم فقد سعوا إلى إخفاء بعض الأسفار، ومنها ما قيل عن محاولة إخفاء سفر حزقيال لمخالفته نصوص التوراة، أو إخفاء سفري الجامعة ونشيد الأناشيد لمخالفتهما لروح العهد القديم ككل.
وقد اجتهد علماء اليهود الذين أنيطت بهم عملية تثبيت نص العهد القديم وفحصه وإقراره، وهؤلاء أطلق عليهم تسمية (أصحاب الماسورا "أي القائمين على إيجاد نص معتمد")، وقد بدأت جهودهم في فلسطين منذ القرون الأولى للميلاد، ولكن لما تبنى الرومان الديانة المسيحية نظروا لليهود على أنهم المسئولون عن صلب المسيح عليه السلام -حسب الاعتقاد المسيحي بالطبع- ومن ثم بدأ اليهود يتعرضون للاضطهاد فاضطروا للانتقال إلى بابل، وكانوا قد أسسوا بها من قبل مدارس يهودية أكاديمية للاهتمام بالعهد القديم، ومع الحكم الإسلامي عادوا من جديد إلى فلسطين في منتصف القرن السابع الميلادي، حيث أحيوا مدارسهم الأكاديمية هناك (خاصة في طبرية).
وقد رأى هؤلاء أن من واجبهم إدخال تعديلات على النص إذا ما تطلب الأمر، وهذه التعديلات كانوا يضعونها على الجوانب الأربعة للصفحة التي تحوي النص (أعلى وأسفل وعلى الجانبين)، وكان هذا يتم بناء على ما يتوفر لديهم من نسخ أخرى. وفي هذا الإطار نشأ ما يعرف بالمقروء والمكتوب. فما هو المقروء والمكتوب؟
المقروء والمكتوب
هو عبارة عن كلمات كان أصحاب الماسورا يرون أنها في حاجة إلى تعديل، فكانوا يضعون هذا التعديل في الهوامش ويتركون النص كما هو، مع توضيحهم أن الكلمة داخل النص تكتب فقط، ويُقرأ بدلا منها الكلمة التي وضعوها في الهامش.
وكان أصحاب الماسورا يضطرون لعمل هذه التعديلات في حالات محددة منها:عندما يشعرون أن الكلمة الواردة في النص الأصلي ليست كلمة مهذبة، يستبدلونها في الهامش بكلمة أكثر تهذيبا لتقرأ بدلا من الكلمة الأصلية: وذلك كاستخدام كلمة "الانتهاك" بدلا من "الجماع"، وكاستخدام كلمة "عذرة" (بكسر العين) بدلا من "براز"، وكاستخدام كلمة "ماء أرجلهم" بدلا من "بولهم".. وهكذا.
أو عندما يجدون كلمات غير معتادة بسبب زيادة أحرفها أو نقصانها، فكانوا يضعون الصورة الصحيحة للكلمة في الهامش حتى تُقرأ بدلا من الكلمة غير الواضحة. وقد يجدون كلمات اختلط ترتيب أحرفها، أو التصقت كلها بكلمة أخرى، أو وضع حرفها الأخير ملتصقا مع الكلمة التالية، أو قد يضعون كلمة مختلفة تماما؛ لأنهم يظنون أن الكلمة الأصلية داخل النص لم تكتب في الأصل بصورة صحيحة بسبب تشابه بعض الأحرف في اللغة العبرية. وهذا قد يغير المعنى تماما، مثل استخدام كلمة "فناء أو ساحة" بدلا من "مدينة".
وهناك حالة أخرى؛ وهي عندما يشعرون أن النص الأصلي تنقصه كلمة؛ فكانوا يضعون هذه الكلمة في الهامش، ويتركون مكانها في النص خاليا حتى يتعرف القارئ على موضع قراءتها، وربما توجد كلمة في النص لكنهم لا يقرءونها. ويتراوح عدد حالات المقروء والمكتوب في العهد القديم ما بين 1300 و 1500 حالة.
وقد حاول العلماء تفسير أسباب هذه الظاهرة، وظهرت في ذلك عدة اقتراحات، منها القول بأن أصحاب الماسورا وضعوا ملاحظات تعسفية لتعديل النص في الهامش حتى تكون مقروءة، بينما رأى آخرون أن أصحاب الماسورا اتفقوا على مخطوطة واحدة هي النص الأصلي، أما المقروء الذي وضعوه في الهامش فهو عبارة عن الاختلافات التي عثروا عليها في المخطوطات الأخرى، وهناك رأي ثالث يقول إن هذه الظاهرةنشأت نتيجة التوفيق بين مخطوطات متعددة للعهد القديم.
ويمكن رد العديد من الأخطاء التي تشير إليها هذه الظاهرة إلى عوامل مختلفة: مثل تدني مستوى من كانوا يقومون بعملية الإملاء والتدوين، وردها أيضا إلى رداءة أدوات الكتابة ونوعية الورق والأحبار.
ويلاحظ المتخصصون في اللغة العبرية القديمة أن العديد من المقترحات التي وضعت لتوضيح كلمات غير مفهومة لم تحل المشكلة بل أبقتها مبهمة كما هي.
وإذا كان العهد القديم قد ترجم إلى كل اللغات تقريبا، فإن السؤال المهم هنا، هل كان المترجمون يتعاملون على أساس المقروء أم على أساس المكتوب؟
وتظهر أهمية التساؤل هنا في أنه في كلتا الحالتين فإننا أمام قضية ليست بالهينة؛ فالترجمة على أساس المكتوب (أي المتن) تعني وجود أكثر من قراءة للعهد القديم، بمعنى أن الترجمة تكون قد اعتمدت على المتن فقط بما فيه من أخطاء وقع فيها النساخ قديما.
أما إذا كانت الترجمة على أساس المقروء (أي الملاحظات المدونة في الهامش) فإن ذلك يعني إهمال ما دون ما في المتن والأخذ بتعديلات النساخ.والظاهر أن أكثر الترجمات كانت أحيانا تترجم حسب المكتوب، وأحيانا حسب المقروء، بما في ذلك الترجمات العربية للعهد القديم.
ويظهر من الحديث عن المقروء والمكتوب أننا بصدد عمل نقدي، قام به أصحابه لتصويب ما رأوه غير صائب داخل النص، كما يظهر من العديد من الشواهد عدم الدقة، وأحيانا قلة كفاءة من يقومون باعتماد كتاب ديني بهذا المستوى من الأهمية، وربما وصل الأمر في بعض الأحيان إلى عدم الأمانة الكافية في التعامل مع النص عندما يضعون تغييرات تعسفية كما أشرنا.
النقد اليهودي في التلمود
ركز كتاب التلمود جل اهتمامهم على تفسير العهد القديم وليس نقده، فتنوعت تفسيراتهم بين الإسهاب والاختصار، وتم وضع قواعد عامة للاعتماد عليها عند تفسير العهد القديم. وهذا الاهتمام أدى إلى صرف التفكير عن الاختلافات الموجودة داخل أسفار العهد القديم، وبالتالي فإن الأسئلة التي تتناول زمن تأليف الأسفار، ومن كاتب كل سفر، أو من جمع أجزاء السفر المتفرقة؟ هذه الأسئلة وغيرها لم يتم طرحها.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إن مؤلفي التلمود وكتابه لم يطوروا أي إحساس نقدي تجاه العهد القديم. لكن هذا الأمر شهد تحولا في كتابات التلمود المتأخرة؛ حيث بدأت هذه الأسئلة في التطور، لكنها لم تكن تطرح بهدف نقدي بل من أجل التعرف على كتاب الأسفار فحسب.
ومفاد بعض هذه الآراء أن موسى لم يؤلف سوى أجزاء محدودة من أسفار التوراة الخمسة وليس كل التوراة حسبما يعتقد اليهود عامة.
وإذا كان أصحاب الماسورا قد نسبوا كتابة أسفار (الأمثال ونشيد الأناشيد والجامعة) إلى سليمان عليه السلام أي في القرن العاشر ق.م. فإن كتابات تلمودية أرجعت كتابة هذه الأسفار إلى القرن السادس ق.م. وليس العاشر.
كذلك تحدثت كتابات تلمودية عن أن داود لم يؤلف سفر المزامير كله (عكس ما هو سائد في التراث اليهودي)، بل ألفه عدد من الشيوخ إلى جانب داود في أزمنة مختلفة وأجيال متتالية.
وتشير بعض الآراء التلمودية إلى أن بعض الأسفار ليست من كتابة شخص واحد، واستدلوا على ذلك بأن بعض الفقرات في سفر ما قد لا تتناسب مع المضمون العام للسفر، أو لا تتناسب مع فقرة أخرى من الفقرات؛ مثل قولهم إن ما جاء في سفر ناحوم 1: 2 والتي تقول: "الرب إله غيور ومـنتقم. الرب منتقم وذو سخط، الرب منتقم من مبغضيه وحافظ غضبه على أعدائه" لا تتناسب مع ناحوم 1: 3 التي تقول: "الرب بطيء الغضب وعظيم القدرة ولكنه لا يبرئ البتة.الرب في الزوبعة وفي العاصف طريقه والسحاب غبار رجليه". وقالوا إن من كتب الأولى لم يكتب الثانية.
وفي إطار تعاملهم مع مضمون الأسفار تحدث كتّاب التلمود عن أن إرميا لم يكتب الإصحاح الأخير (الإصحاح أي الفصل) من سفره المسمى "سفر إرميا" والذي ينسب تأليفه كاملا إلى إرميا في التراث اليهودي، وذلك بسبب اختلاف مضمون هذا الإصحاح عن باقي السفر.
وإذا كان التراث اليهودي ينسب تأليف سفر إشعيا للنبي إشعيا بن آموص الذي عاش في القرن الثامن ق.م. فإن بعض علماء التلمود اليهود قالوا إن إشعيا لم يكتب الفقرتين 19 ـ 20 من الإصحاح الثامن، بينما هناك آراء تلمودية أخرى تقول بأن إشعيا لم يكتب شيئا في هذا السفر في أي إصحاح من إصحاحاته الـ (66).
علماء التلمود وتناقضات العهد القديم
ولعلماء التلمود دور بارز أيضا في إظهار وإبراز العديد من التناقضات في العهد القديم؛ ومنها مثلا:
حديثهم عن وجود تناقضات في قصة الخلق الواردة في الإصحاحين 1 ـ 2 من سفر التكوين؛ فقد تحدث فريق عن أن الله خلق السماء أولا معتمدين على التكوين 1: 1 وهي تقول: "في البدء خلق الله السماوات والأرض"، بينما قال فريق آخر إن الله خلق الأرض أولا معتمدين على التكوين 2: 4 حيث جاءفيه: "هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت. يوم عمل الرب الإله الأرض والسماوات".
حديثهم عن تضارب بعض التفاصيل عند الاحتفال بعيد الفصح؛ فالأمر في سفر الخروج 23: 15 جاء "سبعة أيام تأكل فطيرا"، بينما جاء الأمر الإلهي في سفر التثنية 16: 8 "ستة أيام تأكل فطيرا".
التناقض بشأن المسئولية الفردية؛ حيث جاء في سفر الخروج 34: 7 "مفتقد إثم الآباء في الأبناء" بينما في التثنية 24: 16 جاء "لا تموت الأبناء عن الآباء"
هناك أيضا تضارب في بعض الروايات التاريخية؛ مثل الحديث عن أن "بعشا" ملك إسرائيل حارب مملكة يهوذا السادس والثلاثين من بداية حكم الملك "آسا" ملك يهوذا (1) وهذا ما ورد في سفر أخبار الأيام الثاني 16: 1، حيث جاء "في السنة السادسة والثلاثين من ملك آسا صعد بعشا ملك إسرائيل على مملكة يهوذا وبنى مدينة الرامة".
أما ما جاء في سفر الملوك الأول 16: 8 فيشير إلى موت بعشا ملك إسرائيل في العام السادس والعشرين من حكم آسا ملك يهوذا، أي أنه مات قبل عشر سنوات من التاريخ المذكور في سفر أخبار الأيام "في السنة السادسة والعشرين من ملك آسا تولى أيلة بن بعشا حكم مملكة إسرائيل".
والمثال الأغرب في التناقضات التاريخية هو ما أشار إليه التلمود من تناقض بين ما جاء عن الملك يهورام ملك يهوذا في سفر الملوك الثاني 8: 17؛ حيث جاء عنه: "كان ابن اثنتين وثلاثين سنة حين بدأ ملكه، وملك ثمان سنين في أورشليم" أي أنه مات في سن الأربعين، أما ما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني 22: 2 فيتحدث عن أحزيا ابنه الذي بدأ حكمه بعد وفاة أبيه "كان (أحزيا) ابن اثنتين وأربعين سنة حين بدأ ملكه، واستمر ملكه سنة واحدة".
وقد تعجب علماء التلمود من ذلك وتساءلوا: كيف يكون الابن أكبر من أبيه بسنتين؟ والأرجح أن هناك خطأ في سفر أخبار الأيام بهذا الشأن.
وقد تعددت النماذج التي طرحها علماء التلمود عن التناقضات داخل أسفار العهد القديم. وبشكل عام لا يمكن القول إن علماء التلمود استطاعوا وضع منهج نقدي عن العهد القديم، وذلك برغم آرائهم النقدية هذه.
أما علماء اليهود في العصر الوسيط فقد كانت لهم جهود كبيرة أيضا في نقد العهد القديم أخذت أشكالا متعددة.

(1) - مملكتي إسرائيل ويهوذا هما مملكتان لبني إسرائيل، وقد وجدتا بعد موت سليمان عليه السلام؛ حيث انقسمت مملكة سليمان إلى مملكتين: إحداهما في الجنوب وهي يهوذا، والأخرى في الشمال وتسمى إسرائيل أو السامرة.

كاتب المقال د. أحمد عبد المقصود الجندي مدرس دراسات العهد القديم- كلية الآداب ـ جامعة القاهرة

مقال منقول من موقع اسلام اون لاين

النقد الإسلامي للعهد القديم

يمكن القول إن اليهود خلال العصر الوسيط تأثروا بعلماء المسلمين في نقدهم للعهد القديم، حتى إن العالم اليهودي إبراهام بن عزرا (امتد نشاطه خلال القرن الـ12 الميلادي) -الذي اعتبرت إشاراته النقدية بداية لنقد منهجي، وأنه أثر في علماء نقد العهد القديم فيما بعد- هو نفسه كان متأثرا بابن حزم الظاهري (ت.1064م) الذي كان أول من قدم منهجا نقديا علميا في نقد العهد القديم.
وقد أدى الجدال الديني بين أصحاب الديانات السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) إلى نشاط علماء المسلمين في مجال نقد الكتاب المقدس، إذ كان عليهم كشف نقاط الضعف الموجودة في الكتاب المقدس، سواء كانت نقاط ضعف عقائدية، أو تاريخية، أو منطقية.
وهذا النقد الإسلامي قابلته محاولات يهودية لنقد الإسلام، وكان من بين هذه المحاولات "مقال إسماعيل" الذي كتبه سلومون بن أدريت (القرن الـ13 الميلادي في برشلونة)، وكذلك "القوس والدرع" الذي كتبه شمعون بن تسيماح دوران (القرن الـ15 الميلادي في القيروان).
لكن السمة الرئيسية لهذه المحاولات أنها كانت محدودة للغاية، كما أنها كتبت بلغة عربية؛ ولكن باستخدام الحروف العبرية (الكتابة العربية اليهودية).
وقد حاول بعض الغربيين تعليل ندرة الأعمال النقدية اليهودية ضد الإسلام بجملة أسباب غير صحيحة؛ منها على سبيل المثال: القول بأن اليهود الذين كانوا يعيشون في البلاد الإسلامية كانوا يخشون التعرض للاضطهاد من قبل المسلمين، وهذا أمر يتنافى مع المعطيات التاريخية، والتي تبرهن بالدليل القاطع كيف أن اليهود تفاعلوا مع الحضارة الإسلامية في كافة مجالاتها، وكيف أنهم كانوا يفرون من الاضطهاد المسيحي لهم في أوروبا للعيش في البلاد الإسلامية بين المسلمين؛ حيث سمح لهم بممارسة كافة الأعمال؛ بما في ذلك تولي بعض المناصب السياسية الكبرى كالوزارات وغيرها، في الوقت الذي كانوا يمنعون فيه من ممارسة أعمال تجارية عادية في أوروبا، حتى وصل الأمر إلى إصدار قرارات تحظر على "اليهود والعاهرات" أن يلمسوا الخبز والفاكهة في الأسواق.
اتجاهات النقد الإسلامي للعهد القديمتطورت اتجاهات النقد الإسلامي للعهد القديم، فسار هذا النقد في أربع نقاط رئيسية هي: التحريف والتبديل، والنسخ، وفقدان التواتر، وتفسير النصوص التوراتية، ويمكن شرح هذه الاتجاهات الأربع وتبسيطها على النحو التالي:
1 - التحريف والتبديل: كانت الآيات القرآنية هي الباعث الأكبر الذي دعا علماء المسلمين إلى التركيز على مسألة تحريف الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ فقد وقف هؤلاء العلماء أمام الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا التحريف، وهناك أمثلة بارزة على ذلك لدى مفسري القرآن الكريم: مثل تفسير الطبري للآية الكريمة: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] فقد اعتمد الطبري على روايات تثبت هذا التحريف، وتتحدث عن سببه؛ فقال إنهم عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد -صلى الله عليه وسلم- فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا.
وفي رواية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الآية نزلت في اليهود؛ لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوراة؛ فلذلك غضب الله عليهم؛ فرفع بعض التوراة.
وتؤكد آيات قرآنية أخرى أن اليهود أخفوا كثيرا من الكتاب الذي أوحي به إلى موسى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
كذلك تتبع علماء المسلمين الأحاديث النبوية التي تشير إلى شكل من أشكال التحريف والإخفاء التي مارسها اليهود؛ وفي ذلك تروى القصة المشهورة: عندما جاء اليهود إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحكمونه في جريمة زنا ارتكبت، فأخبرهم بأن الحكم هو الرجم، وأن هذا الحكم موجود في التوراة بالفعل، ولما أحضروا التوراة وضع أحدهم -عامدا- يده على موضع فيها، فجعلوه يرفع يده فظهرت آية الرجم.
ويعد ابن حزم أول كاتب إسلامي يستخدم اتجاها نقديا علميا منظما في دراسة التوراة؛ لكي يبرهن على هذه النظرة القرآنية التي تؤكد تحريف التوراة، وينظر الباحثون الغربيون إلى ابن حزم على أنه أول الكتاب المسلمين الذين استخدموا منهجا نقديا علميا، كما أنه في الوقت نفسه أول من كان لديه معرفة حقيقية بالنص التوراتي، خاصة أسفار التوراة الخمسة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية).
وقد أفرد ابن حزم جزءا كبيرا من موسوعته "الفصل في الملل والأهواء والنحل" للحديث عن نقد التوراة، وركز فيه على ثلاثة أمور؛ ليثبت من خلالها التحريف الذي لحق بها وهي:
أ- عدم الدقة التاريخية والجغرافية ، فقد ناقش ابن حزم تفاصيل توراتية عديدة ذات صبغة تاريخية أو جغرافية، وأكد على عدم صحة هذه التفاصيل؛ فعدد السنوات التي تعطى لبعض الشخصيات غير دقيق، ولا يتناسب مع التسلسل التاريخي لأحداث توراتية أخرى، ففي قصة الطوفان نجد الحساب الزمني ينحرف حوالي عشرة أشهر عما هو مذكور في سفر التكوين، وهذا الانحراف الزمني حدث لأن يد التحريف تناولته؛ لأن "الله لا يخطئ ولا في دقيقة واحدة"، كما يقول ابن حزم، وقد تكرر هذا الأمر كثيرا في تسلسل الأحداث التاريخية في التوراة، كما لاحظ ابن حزم تناقضات تاريخية بين سفر الخروج وسفر العدد.
ب- استحالات لاهوتية ، والمقصود هنا نسبة أمور غير لائقة إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة التشبيه، أو أي صفات أخرى لا تليق نسبتها إلى الله، ومن بين ما أشار إليه ابن حزم من أمثلة: إشارته إلى قول الإله عند خلق آدم "وقال الرب الإله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (سفر التكوين1: 26)، أو "وقال الرب الإله ها هو الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (سفر التكوين3: 22).
وقد عبر ابن حزم عن فزعه من هذه الأكاذيب اليهودية، واعتبر ذلك كما لو كان إشارة لوجود آلهة أخرى مع الله، أو أن الإنسان أصبح واحدا من هذه الآلهة، ثم يشكر ابن حزم الله على حفظ المسلمين من هذا الإثم.
كذلك رفض المسلمون الفكرة الواردة في سفر التكوين عن استراحة الرب في اليوم السابع بعد أن أتم عملية الخلق في ستة أيام، وهذا الموقف تأثر به بعض علماء اليهود، فوجدنا سعديا الفيومي يترجم الفقرة التي تتحدث عن استراحة الرب في اليوم السابع إلى "وفي اليوم السابع ترك الله الأرض بلا زرع حتى تستريح"، وهي ترجمة مخالفة لما تعارف عليه اليهود طوال العصور، كما أنها لا تتفق مع النص العبري الذي ترجمته "وفي اليوم السابع أنهى الرب عمله الذي صنع، واستراح في اليوم السابع من كل عمله الذي صنع".
وقد ركز علماء المسلمين على رفض صفات التجسيد التي وردت في العهد القديم، والتي تكررت مرارا، حتى قرر أحمد بن إدريس الصنهاجي (ت 1258م) أنه بسبب ما ورد في سفر التكوين اعتقد كثير من اليهود في إله "يشبه شيخا أبيض اللحية والرأس".
وقد سار كثير من علماء اليهود في العصور الوسطى على نهج علماء الكلام من المسلمين؛ فوجدنا منهم من يتحدث عن تنزيه الإله عن التجسيد، أو التشبيه، وأنه واحد لا مثيل له، ويخلعون عليه كل صفات التنزيه... إلخ.
ج - سلوكيات غير مقبولة ، فقد اعتبر ابن حزم أن القصص المتكررة عن الزنا في سفر التكوين، والمنسوبة إلى أجداد وأنبياء بني إسرائيل دليلا قاطعا على تحريف الكتاب المقدس، فقد ألقت هذه القصص بظلالها على السلوك الأخلاقي للأنبياء والأجداد، وقد أحصى ابن حزم هذه القصص وتتبعها؛ فذكر قصة لوط وزنا ابنتيه به، وقصة زواج إبراهيم من أخته غير الشقيقة (سارة) (تكوين12: 12- 13)، وكيف اضطجع يعقوب مع ليئة التي تزوجها خطأ بدلا من أختها (تكوين15: 29)، وكيف اضطجع رأوبين (أحد أبناء يعقوب عليه السلام) مع "بلهة" زوجة أبيه، وكيف تخلص داوود من أحد أتباعه ليتزوج امرأته، وكيف استمالت زوجات سليمان زوجهن لعبادة آلهتهن...إلخ.
لقد كان واضحا أن ابن حزم في هجومه على التوراة يدحض مفاهيم مسيحية كذلك؛ وقد عبر عن دهشته من قبول المسيحيين للعهد القديم، رغم "فساد نصه"؛ لكنه كان يربط ذلك بقبولهم لقصص الأناجيل المتناقضة وغير الصحيحة.
2 - النسخ: يدور مفهوم هذه الفكرة حول إحلال حكم، أو مفهوم جديد محل آخر قديم، وقد استخدم علماء المسلمين هذه الفكرة ذات الأصل الفقهي؛ لإثبات أن الدين الإسلامي نسخ ما قبله من أديان، وتحديدا اليهودية والمسيحية ذواتي الأصل السماوي.
وبالطبع لم يقبل اليهود هذه الفكرة؛ لأنها كانت تعني أن شريعتهم ليست أبدية؛ وقد خصص سعدي جزءا كبيرا من كتابه "الأمانات والاعتقادات" لدحض الحجج التي أطلقها علماء المسلمين ضد اليهودية، وانطلق يبحث في العهد القديم عن النصوص التي تشير إلى أبدية الوعد الإلهي لبني إسرائيل.
كانت المشكلة أكبر عند المسيحيين، فالديانة المسيحية ينظر إليها أتباعها على أنها ديانة ناسخة لليهودية، ولذا فقد سمي كتاب اليهود المقدس بالعهد القديم، فيما أطلقوا على أسفارهم اسم العهد الجديد؛ ولذا فإن موقفهم كان أكثر تعقيدا فكيف يصفون دينهم بأنه ناسخ لليهودية، بينما يرفضون أن تكون ديانتهم منسوخة بالدين الإسلامي؛ ولذلك فقد وصف بعضهم المسيحية بأنها "شريعة ناسخة غير منسوخة".
ويشير الباحثون الغربيون إلى أن علماء اليهود استخدموا هذا التناقض في جدلهم الديني ضد المسيحية، وأمام هذا الرفض اليهودي لفكرة النسخ انطلق علماء المسلمين يبحثون عن أمثلة للنسخ داخل العهد القديم، وذلك لجعل اليهود بين موقفين: فإما أن يسلموا بأن الدين الإسلامي هو آخر الأديان، أو يسلمون بوجود تناقضات داخل العهد القديم.
وقد عثر هؤلاء العلماء على عدد من الأمثلة: فيعقوب عليه السلام تزوج من أختين (ليئة وراحيل) ثم حرم سفر اللاويين فيما بعد الجمع بين الأختين (اللاويين18: 18)، وشريعة موسى أمرت بقتل كل سكان أرض كنعان لكن يشوع لم يقتل سكان مدينة جبعون ولم يعتبر آثما، والتوراة حرمت أي إضافة لشريعة موسى (سفر التثنية13: 7) لكن اليهود نسخوا ذلك واخترعوا معظم الصلوات وأضافوا كثيرا من الشرائع.
وأمام ذلك اضطر بعض اليهود للاعتراف بمنطقية فكرة النسخ؛ لكنهم أنكروا أن يكون الرب قد سمح بنسخ الديانة اليهودية لوعوده المتكررة ببقاء بني إسرائيل.
3 - فقدان التواتر: تعني فكرة التواتر أن يتم تناقل النص عبر جماعة من الناس إلى جماعة أخرى وهكذا حتى يصل إلى صورته النهائية؛ بحيث يصبح من الصعب على أفراد جماعة من هذه الجماعات الاتفاق على تحريف النص.
وقد ناقش علماء الغرب هذه الفكرة، واعتبروا أنها أهم الأطروحات التي طرحها علماء المسلمين في نقدهم للعهد القديم، وقد تحدث ابن حزم، ومن بعده مباشرة السموأل المغربي (العالم اليهودي الذي اعتنق الإسلام) عن أن نص العهد القديم لم يكن متواترا، مما يعني احتمال أن يكون قد تعرض للتحريف.
وقد قابل ذلك رفض يهودي لهذه الأقوال وقالوا بأن التوراة تم تناقلها بالتواتر الكافي، لكن ابن حزم وعلماء المسلمين بعده أكدوا أنها غير متواترة من خلال نصوص العهد القديم ذاتها، أو من خلال مصادر تعود لما بعد عصر تدوين العهد القديم: فهناك أخبار -حسب قول ابن حزم- عن أن التوراة كانت تحفظ عند الكاهن الأكبر، وهذا المنصب تولاه عدد من الكهنة الفاسدين، أو المحاطين بكهنة فاسدين.
كذلك فإن الأحداث التاريخية ودمار الهيكل، وأورشليم، وسبي بني إسرائيل إلى آشـور، ثم إلى بابل فيما بعد، والشتات الروماني 70م، ثم دمار أورشليم الثاني 164م على أيدي الرومان تؤكد صعوبة الحفاظ على النص من الضياع أو التحريف، وإذا أضيف إلى ذلك حالة المعصية الدائمة التي لازمت بني إسرائيل طوال تاريخهم -حسبما جاء في العهد القديم- فإن ذلك يعني أن التوراة محرفة.
أما السموأل فقد تحدث عن أن عزرا هو من حرف العهد القديم (وقد سبقه في ذلك ابن حزم)، فحسب قول السموأل فإن عزرا -ذي الخلفية الكهنوتية- كان يكره داوود ونسله؛ لذلك فقد أضاف قصص الزنا التي تشكك في نقاء أصل داوود ونسبه.
والفكرة بأن عزرا هو من حرف التوراة كانت موجودة في كتابات قبل ظهور الإسلام فوجدناها عند "بروفيريوس"، وفي الكتابات الأوروبية المتأخرة، بينما اعتبر عزرا عند سبينوزا (الفيلسوف اليهودي الهولندي القرن الـ17م) مقننا للتوراة.
4- التفسير الإسلامي للتوراة: يستخدم هذا العنصر لتفسير بعض نصوص العهد القديم على أنها نبوءات بقدوم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أو ظهور الإسلام، ورغم أن الترجمات العربية للعهد القديم لم تكن متاحة بسهولة للعلماء المسلمين فإنهم كانوا يقتبسون بعض الفقرات التوراتية من بعض الترجمات الحرفية ويعتبرونها بشارة بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم.
وقد اعتبر بعض الباحثين الغربيين هذا الموقف من استخدام نصوص التوراة لإثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- مناقضا لقولهم بتحريفها.. ويجب أن نلاحظ أن الموقف الإسلامي من العهد القديم لا يقول بتحريفه جملة، بل بتحريف أغلبه، وهذا أتاح لهم استخدام النص إذا لم يكن مخالفا لأي مبدأ إسلامي، وبالتالي كان من الممكن تفسير بعض النصوص كبشارات بأمور تتعلق بالإسلام، لكن يجب أن نضيف كذلك أن تفسير نصوص العهد القديم على هذا النحو كان ذا أهمية محدودة عند علماء المسلمين.
وتشير المستشرقة الإسرائيلية "حافا لازاروس" إلى أن أغلب هذه التفسيرات بدأت على يد أعداد من اليهود أو المسيحيين ممن اعتنقوا الإسلام.
وقد تنوعت موضوعات تفسير نصوص العهد القديم، فبعضها فسر على أنه إشارة إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مثل ما جاء في سفر إشعيا42: 2-3 "هو ذا عبدي الذي أعضده ومختاري الذي سرَّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته".
ومنها ما فسر على أنه إشارة للصلاة مثل إشعيا42: 11-12 "ليهتفوا، ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحة في الجزائر".
ومنها ما فسر على أنه إشارة للحجر الأسود مثل العبارة "حجر الزاوية الكريم" التي وردت في سفر إشعيا28: 16، كما فسرت العبارات التي تتحدث عن الصحراء والبادية على أنها أرض الحجاز خاصة إذا اقترنت بأسماء عربية مثل مدين أو قيدار، كما فسرت النصوص التي تتحدث عن الجيش الفاتح بأنها بشارة بالجيش الإسلامي... والأمثلة حول التفسيرات الإسلامية لنصوص العهد القديم كثيرة.
وجدير بالذكر أن النصوص التي فسرت على أنها بشارة بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عند علماء المسلمين، فسرها اليهود على أنها تتحدث عن نبي يأتي من نسل داوود عليه السلام ليخلص بني إسرائيل، بينما فسرها المسيحيون على أنها بشارة بالمسيح عليه السلام.
وبشكل عام فإن علماء المسلمين استطاعوا في مناقشاتهم حول مسائل عدم الدقة التاريخية والنسخ، وفقدان التواتر أن يؤسسوا منهجا علميا استفادت منه مدارس نقد العهد القديم في العصر الحديث بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة عبر علماء اليهود في العصور الوسطى والذين تأثروا بدورهم بعلماء المسلمين.
كذلك دار هذا الجدل الديني في جو من التعايش، وفي بعض الأحيان في مناظرات دينية، أو في ردود مكتوبة بين علماء كل دين، مثلما حدث بين الإمام ابن حزم وابن النغريلة اليهودي (ت.1055م).
هوامش ومصادر:أول فيلسوف يهودي ذائع الصيت في العصور الوسطى. عاش في الفترة (882 ـ 942 م.)، وقد ولد بالفيوم بمصر. هاجر إلى فلسطين في عام 915 م. وبعدها هاجر إلى بابل؛ حيث أصبح رئيسا للمجمع العلمي اليهودي هناك، واهتم بمهاجمة بعض الفرق اليهودية التي اعتبرها مارقة عن الدين اليهودي، كما حاول أن يبين أن اليهودية تتفق تماما مع العقل والتاريخ. كان أول من ترجم العهد القديم إلى العربية، وهي ترجمة لا تزال تستخدم إلى الآن. وكان من الواضح تأثره بعلماء الكلام المسلمين وظهر ذلك في أهم مؤلفاته "الأمانات والاعتقادا.
كاتب المقال د. أحمد عبد المقصود الجندي مدرس دراسات العهد القديم- كلية الآداب ـ جامعة القاهرة

مناهج النقد الغربي للعهد القديم

مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقدم علم نقد العهد القديم في الغرب تقدما ملحوظا، بعد أن كان هذا العلم محظورا أو يكاد؛ بسبب موقف رجال الدين المسيحيين والكنيسة التي عارضت وقاومت أي دراسة تتعرض للعهد القديم بالنقد، وكانت دراسة الكتاب المقدس ككل تقتصر على العلوم اللاهوتية وإثبات رؤى رجال الدين وتفسيراتهم للنصوص. فقد أخذت الكنيسة على عاتقها الدفاع عن المعتقدات المسيحية وعن أصالة العهد القديم، والتأكيد على أنه وحي إلهي، وتكفير كل من يقول بأنه نص إنساني حتى وإن جاءت الدراسات لتثبت ذلك؛ وقد تعرض العديد من العلماء الألمان للتكفير لأن أبحاثهم جاءت لتقول بأن أسفار موسى الخمسة (التوراة) هي في الحقيقة نتاج إنساني تم تدوينه في أزمنة متعاقبة، وتعرض للتحرير مرارا حتى وصل إلى صورته الحالية في نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس ق.م.
وقد ساعدت الاكتشافات الأثرية والتقدم التكنولوجي في الكشف عن مصدر آخر للمعرفة باكتشاف حضارات بلاد النهرين (البابلية والآشورية)، والحضارة المصرية القديمة، والكنعانية، والعديد من النقوش والكتابات التي أسهمت في تنوع دراسات العهد القديم وتطورها تطورا غير مسبوق، وقد نشأ على إثر هذا النشاط جيل من الباحثين ممن اهتموا بدراسة العهد القديم دراسة حرة، وتبنى نتائج دراساتهم -بغض النظر عن اتفاق هذه النتائج أو اختلافها- مع النصوص التي يدرسونها، ونتيجة لذلك تنوعت مدارس نقد العهد القديم تنوعا كبيرا؛ وسوف نشير هنا إلى بعض هذه المدارس النقدية ومناهجها وطريقة عملها، ونكتفي منها بمدرسة النقد التاريخي، ثم مدرسة النقد النصي، ثم مدرسة النقد الأدبي، ونختم بالحديث عن مدرسة النقد المصدري.
1 ـ مدرسة النقد التاريخي:
ظل العهد القديم لفترة طويلة المصدر الوحيد لتاريخ منطقة الهلال الخصيب (بلاد النهرين، وبلاد الشام) ومصر، واستمر هذا الحال حتى بدأت الاكتشافات الأثرية تأخذ مجراها؛ حيث اكتشفت خبايا وأسرار وتاريخ حضارات بلاد النهرين (بابل وآشور) والحضارة المصرية، وحضارة المنطقة السورية، فقد أمدت المعلومات التي توفرت من هذه الاكتشافات الباحثين بمصدر آخر يمكن أن يدعم رواية العهد القديم التاريخية، أو يكشف عن عدم صحتها، أو تناقضها مع الروايات التاريخية التي وردت في الكتابات المكتشفة التي تعود لهذه الحضارات.

كانت هناك دوافع أساسية أدت لانطلاق الاكتشافات الأثرية التي قادها الرحالة الغربيون والقناصل، ثم العلماء والباحثون لاحقا، وكان من بين هذه الدوافع الدافع الديني خاصة فيما يتعلق بالاكتشافات في فلسطين؛ حيث رغب العديد من الأثريين في إثبات مصداقية الروايات التوراتية، والبحث عن المدن والأماكن المذكورة في الكتاب المقدس، وهذا الهدف كان يدعمه مؤسسات لاهوتية تأسست خصيصا له، منها على سبيل المثال: "المدرسة التوراتية والأثرية للقديس ايتين"، و"المعهد الإنجيلي الألماني لعلم الآثار القديمة للأرض المقدسة".

ورغم أن الهدف كان إثبات مصداقية الروايات التوراتية فإن النتائج كانت كثيرا ما تأتي عكس ذلك؛ حيث أثبتت مقارنة روايات العهد القديم التاريخية بتاريخ البابليين والآشوريين ومصر عدم دقة رواية العهد القديم، بل وعدم صحتها في كثير من الأحيان.

أما الدافع الثاني الذي يهمنا هنا فيتعلق بالمحاولات الصهيونية لإثبات الوجود الإسرائيلي القديم في فلسطين وبالتالي الادعاء بأن اليهود هم أصحاب الحق الشرعي في فلسطين وهذا من شأنه تأجيج المشاعر من أجل دفع اليهود للهجرة إلى وطنهم الأم؛ وهنا حدث تزاوج واضح بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية، وقامت مؤسسات كان هذا الهدف في بؤرة اهتمامها منها مثلا: "صندوق الأبحاث الفلسطينية، والجمعية الأمريكية للتنقيب بفلسطين، والمدرسة البريطانية للآثار في فلسطين"... وغيرها.
وبفضل النتائج التي ظهرت نشأ علم جديد يبحث في الرواية التاريخية في الكتاب المقدس عامة والعهد القديم خاصة ومدى صدق هذه الرواية، وهذا العلم كانت له أصول قديمة حينما كان العلماء اليهود قبل ظهور الإسلام وبعده، ثم العلماء المسلمين (مثل ابن حزم كما ذكرنا في مقال سابق) يشيرون إلى وجود تناقضات تاريخية في العهد القديم، لكن علماء العصر الحديث توفر لهم ما لم يتوفر للقدامى فجاءت أبحاثهم مدعومة بحقائق علمية وليست مجرد آراء نظرية.

كانت الدراسات تتوالى كاشفة عن أن التاريخ الإسرائيلي القديم لم يدون بشكل صحيح، وأنه تاريخ مليء بالأساطير والحكايات والخرافات، كما أنه في أكثر الأحيان كان مخالفا لما تم تدوينه في بلاد النهرين وفي مصر، أو مخالفا لما تثبته معامل التحليل ووسائل التقنية الحديثة. وهذا كله أدى إلى أن العهد القديم لم يعد المصدر الوحيد لتاريخ المنطقة، أو بالأحرى لم يعد مصدرا موثوقا لمثل هذه المعلومات.
2 ـ مدرسة النقد النصي:
يعتمد عمل هذه المدرسة على مقارنة نسخة العهد القديم المعتمدة (النص الماسوري) بترجمات العهد القديم، أو بالمخطوطات المكتشفة للعهد القديم، أو بنصوص عبرية أخرى تتبناها بعض الفرق اليهودية، أو مقارنة نصين داخل العهد القديم بعضهما ببعض، ويهدف عمل هذه المدرسة في الأساس إلى وضع تصور عن الصورة الأصلية التي كان عليها نص العهد القديم، ومحاولة العودة بنصه إلى صورته الأصلية؛ حيث يسلم الباحثون في مجال النقد النصي بأن العهد القديم يحتوي على العديد من الأخطاء النصية التي حدثت لأسباب عديدة منها مثلا: رداءة أدوات الكتابة والأحبار المستخدمة؛ ما قد يؤدي إلى تشوه حالة الحروف وبالتالي قد يغير في المعنى أو يجعله مبهما، كذلك فإن التشابه القائم بين العديد من حروف اللغة العبرية كثيرا ما أدى إلى وقوع أخطاء واضحة عند كتابة النص (مثل التشابه بين حرفي الراء والدال، وتشابه حرفي الواو والجيم، وحرفي الباء والكاف، وحرفي السين والميم النهائية..)، يضاف إلى ذلك أن نساخ العهد القديم كثيرا ما تدخلوا في النص لأسباب أيديولوجية أو عقائدية.

وتفيد بعض الترجمات التي تستخدم في مقارنتها بالنص العبري الحالي للعهد القديم في أنها قد تكون أقدم من العهد القديم ذاته؛ ومثال ذلك الترجمة السبعينية (اليونانية) التي ترجمت ليهود الإسكندرية في القرن الثالث ق.م. على يد اثنين وسبعين حبرا يهوديا، واكتملت ترجمتها في القرن الأول ق.م. بترجمة الأسفار التي تعود إلى القرن الأول ق.م. (سفر الجامعة)، وتحتوي هذه الترجمة على أسفار غير موجودة في النص الماسوري (أسفار المكابيين، وحكمة بن سيرا..) كما أن نص بعض أسفارها جاء أطول من النص الماسوري (سفرا دانيال، وإستير).

وعندما نقارن نسخة العهد القديم المعتمدة (التي أقرها أحبار فلسطين في طبرية في القرن الثامن الميلادي) بالترجمة السبعينية فإننا كثيرا ما نجد اختلافات متنوعة بينهما، وفي هذه الاختلافات كثيرا ما تتفق الترجمة السبعينية مع مخطوطات العهد القديم المكتشفة في كهوف قُمران (لفائف البحر الميت) وهي أقدم مخطوطات غير مكتملة للعهد القديم، وهذا يعني أن نساخ العهد القديم كانوا أمام نسخ متعددة ومختلفة استخدموها في تدوين العهد القديم.

وإلى جانب الترجمة السبعينية يستخدم علماء مدرسة النقد النصي ترجمات أخرى ويقارنوها بالنص العبري مثل الترجمة اللاتينية (الفولجاتا)، والترجمة السريانية (البشيطا)، والتوراة السامرية (أسفار موسى الخمسة التي تتبناها فرقة السامريين والتي تختلف كثيرا عن نسخة التوراة المعتمدة لاختلاف معتقدات فرقة السامريين جذريا عن باقي الفرق اليهودية)... وغيرها.
3 ـ مدرسة النقد الأدبي:
يهتم عمل هذه المدرسة بالإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: من مؤلف النص؟ ومتى؟ وأين تم تدوينه؟ وما هي المصادر التي استمد منها مادة هذا النص؟ لقد أثيرت هذه الأسئلة قديما لدى علماء التلمود وعلماء اليهود في العصور الوسطى، لكنها لم ترق لتكون منهجا علميا واضحا، كما أن الإجابة عن هذه الأسئلة كانت في أكثر الأحيان تتماشى مع ما يتطلبه ترسيخ القناعة بأن هذه الأسفار أصيلة ومؤلفوها هم أنفسهم الذين ينسب التراث اليهودي لهم كتابة هذه النصوص.

لكن الأمر الذي اختلف عن هذه الأسئلة القديمة هو أنه أصبح واضحا أن الكثير من نصوص العهد القديم قد كتبها أكثر من مؤلف، وأن أكثر الأسفار تنتمي لأكثر من مؤلف، ولا يمكن الحديث عن وحدة النص فيها، وبالتالي فقد كان من الضروري الوصول إلى الأيدي المختلفة التي عملت في كل نص.

وللوصول إلى عدد من شاركوا في كتابة سفر ما، وإلى عدد وحداته وإلى أي زمن ينسب تأليف كل وحدة فيه كان لابد من تحليل النص تحليلا وافيا يهتم باللغة (المصطلحات، والألفاظ، والأساليب البلاغية المستخدمة فيه)، ويهتم بالفجوات داخل النص أو التكرار، وبذلك يتمكن الباحث من تحديد بداية النص ونهايته ليقسم السفر إلى وحدات أدبية، بعد ذلك ينظر الباحث إلى هذه الوحدات ليقرر إن كانت متناسقة في لغتها وبلاغتها والموضوعات والأفكار التي تطرحها وبالتالي يحكم بأصالة النص، أم أنها وحدات متباينة ومتعارضة أو غير متناسقة، وبالتالي يقرر أن النص ينتمي لأكثر من مؤلف.

وإذا قرر الباحث عدم وحدة النص فإن الخطوة التالية تكون محاولة تحديد زمن كل وحدة بناء على مقارنة لغتها بلغة نصوص أخرى، أو بتحليل الأحداث المذكورة أو بأي وسيلة أخرى ممكنة، وتفتقد أكثر أسفار العهد القديم إلى وحدة النص؛ فسفر إشعيا يقسم إلى ثلاث وحدات، وسفر أرميا يقسم إلى وحدتين، وأسفار التوراة الخمسة تقسم إلى أربع أو خمس وحدات رئيسية ثم تتفرع بعد ذلك، وسفر المزامير يقسم كذلك إلى العديد من الوحدات... وهكذا مع أكثر أسفار العهد القديم.
4 ـ مدرسة النقد المصدري:
من الضروري بداية أن نوضح ماذا نعني بكلمة مصدر؛ تعني كلمة مصدر: رد التوراة إلى مصادرها الأصلية وإن تعددت، فنتائج الدراسات الحديثة تثبت أن التوراة اشترك في كتابتها أجيال متعاقبة، وكان لكل جيل اتجاهه وأفكاره بل وألفاظه ومصطلحاته الخاصة، وهذا الاتجاه يسمى في علم نقد العهد القديم مصدرا.

وتعد مدرسة النقد المصدري واحدة من أهم الاتجاهات التي تدرس العهد القديم إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لقد كان الاعتقاد القديم الذي توارثه اليهود المحافظون والمسيحيون يؤكد على كتابة موسى لأسفار التوراة الخمسة، إلى أن جاءت الإشارات الرمزية للعالم اليهودي إبراهام بن عزرا (12 ق م) لتشير إلى أن موسى عليه السلام ليس هو من كتب التوراة، وأن هذه التوراة كتبت بعد قرون من وفاته عليه السلام، وقد تأيدت هذه الرؤية فيما بعد على يد الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (17 ق م).

لكن مثل هذه الآراء لم يكتب لها سعة الانتشار في ذلك الوقت، إلى أن جاء طبيب فرنسي يدعى "جان أستروك" (18 ق م) ليقول إن قصة الخلق الواردة في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين تستخدم اسمين للتعبير عن الإله: الأول هو اسم "يهوه"، والثاني الاسم "إلوهيم" وكانت تلك هي بداية الحديث عن وجود مصدرين (اليهوي والإلوهيمي)، لكن الأمر في ذلك الوقت اقتصر على قصة الخلق فقط إلى أن ظهر "إلجن" وتحدث عن تطبيق هذه النظرية على سفر التكوين ككل وقسّم المصدر الإلوهيمي إلى مصدرين ليصبح الحديث عن ثلاثة مصادر (اليهوي والإلوهيمي والكهنوتي)، وأصبحت دراسة هذه المصادر تطبق على الأسفار الأربعة الأولى من التوراة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، إلى أن اكتشف العالم الألماني "دي فته" المصدر التثنوي الذي يرتبط أساسا بسفر التثنية وهو السفر الخامس من أسفار التوراة، وأصبح الحديث عن أربعة مصادر منذ ذلك الوقت، وإن كان بعض الباحثين قد زاد عليها مصدرا خامسا، كما قام آخرون بتقطيع هذه المصادر إلى أجزاء صغيرة لتصبح التوراة مفتتة إلى عشرات الأجزاء.

وقد وصلت مدرسة النقد المصدري إلى أوجها على يد عدد من الباحثين الألمان (رويس، وجراف، وفلهاوزن) وسميت نظرية المصادر اختصارا باسم "نظرية فلهاوزن" على أساس أن جهوده كانت الأبرز فيها، وبالطبع فقد تعرضت هذه النظرية لنقد قوي خاصة في الدوائر البريطانية والأمريكية وبين الكاثوليك الرومان عامة واليهود أيضا، وتعالت الأصوات ضد "الكفر الألماني" و"الجانب المظلم من التنوير" الذي يتعامل مع الكتاب المقدس وكأنه كتاب عادي.
لقد نظرت مدرسة النقد المصدري إلى التوراة واعتبرت أنها قد مرت بمراحل عدة لتصل إلينا بهذا الشكل، وأن كتّابا ذوي أفكار مختلفة وأساليب لغوية متباينة شاركوا في عملية التدوين تلك، وأن كل اتجاه من الاتجاهات التي كان ينتمي إليها هؤلاء الكتاب كان يمثل في الحقيقة فكرا قائما بذاته نشأ في ظروف تختلف عن الظروف التي نشأت فيها الاتجاهات الأخرى، وأنه في مرحلة ما من التاريخ القديم تم مزج تلك الأجزاء المتفرقة كلها معا في بوتقة واحدة لتشكل التوراة.

وكان واضحا أن عمل هذه المدرسة تطور من فكرة تتحدث عن اختلاف أسماء الألوهية في قصة الخلق في سفر التكوين، إلى ملاحظة أن هذا الاختلاف يتخطى مسألة الأسماء إلى الأفكار والتوجهات، وأن هذا الاختلاف كان في الحقيقة يعبر عن وجود اتجاهين فكريين أو مصدرين في هذه القصة، ثم تطور الأمر فيما بعد إلى الحديث عن ثلاثة مصادر وتتبعها في سفر التكوين، ثم تتبعها في أسفار التوراة الأربعة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، حتى تم اكتشاف مصدر رابع ليصبح الحديث عن أربعة مصادر في أسفار التوراة الخمسة؛ وهذه المصادر هي: "المصدر اليهوي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع ق.م.، و"المصدر الإلوهيمي" ويرجع للقرن التاسع أو الثامن ق.م.، و"المصدر التثنوي" ويرجع للربع الأخير من القرن السابع ق.م.، ثم "المصدر الكهنوتي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن السادس ق.م.

وهذه المصادر تم جمعها معا في أواخر القرن السادس أو أوائل القرن الخامس ق.م. لتشكل معا أسفار التوراة، وسرعان ما اتسعت حدود عمل مدرسة النقد المصدري بعد أن بدأ الباحثون تتبع أثر المصادر الأربعة خارج أسفار التوراة إلى أسفار الأنبياء والمكتوبات، ورغم ما يربو على قرنين ونصف هي عمر مدرسة النقد المصدري فما زالت تحظى بالاهتمام الأكبر عند الباحثين في مجال دراسات العهد القديم.

وقد كان من نتائج الأبحاث التي عملت وفق منهج النقد المصدري أن أصبحت الأوساط العلمية تؤكد أن فكرة كتابة موسى عليه السلام للتوراة مستبعدة تماما، وغير منطقية، وذلك خلافا لما ظل سائدا في الدوائر الكنسية وعند المحافظين اليهود؛ حيث ظلوا يؤكدون على كتابة موسى عليه السلام للتوراة، رغم أن الشواهد كلها كانت تثبت عكس ذلك، كذلك أصبح واضحا أن التوراة تأثرت بالآداب القديمة لشعوب بابل وآشور ومصر والكنعانيين، بل وتأثرت بالمعتقدات القديمة الوثنية لهذه الشعوب أيضا؛ وربما كان ذلك مدخلا لموضوع آخر.

د. أحمد عبد المقصود الجندي كاتب المقال مدرس دراسات العهد القديم- كلية الآداب ـ جامعة القاهرة
منقول من موقع اسلام اون لاين

السبت، 25 أكتوبر 2008

الرد على فتوى الالباني التي تحرم العمليات الاستشهادية

هذه المقالة هي محاولة مني للرد على فتوى الوهابي محارب الدين الالباني عدو الاسلام و المسلمين و قد كنت اتصفح موقع (youtube) فوجدت احد السلفيين الوهابيين قد رفع هذه الفتوى ظنا منه انه تبريء شيخه الوهابي من تهمة تحريم العمليات الاستشهادية و لكنه في الحقيقة تؤكد التهمة المنسوبة لهذا الالباني , و قد قررت ان ارد على مهتراته و كذبه و جهله و الاكايب التي ساقها على انها حجة و ارجو منكم سماع الفتوى و قراءة ردي عليه الذي وضعته على شكل نقط .



1- اولا الرجل ليس فقيه و لكنه محدث (عالم حديث) كما يدعي اذلك لا يحق له الفتوى و لان ليس كل طبيب يحق له عمل عملية جراحية كذلك ليس كل من تخصص في علم شرعي له الحق في الفتوى .
2- هذا الرجل –محارب الديين الالباني – مصر على وصف العمليات الاستشهادية بانه عمليات انتحارية و لا نعلم لماذا هذا الاصرار على هذا الوصف الخبيث من هذا الوهابي .
3- دائما يدعي اي كلب وهاي انه لا يجوز تجزيء الاسلام و طبعا هذا عندما يتعلق الامر بلحية او نقاب او تقصير ثياب و لكن عندما يتعلق الامر باعمليات الاستشهادية , يجوز تجزيء الاسلام , فيدعي هذا الجهول ان العمليات الاستشهادية حرام في غير النظام الاسلامي و انها حلال فقط في وجود النظام الاسلامي !!!!!! شيء عجيب و غريب , ما هذا التفلسف و الجهل و التسطيح الساذج , و طبعا هذه محاولة خبيثة لصد الناس و ثنيهم عن الاستشهاد و الجهاد في سبيل الله .
4- هل يجب ان يكف الفلسطينيين عن المقاومة و المسلمون عن الجهاد عندمل لا يوجد امام او امير او خليفة و طبعا هذا لا يخدم الا الصهيونية و الصليبية العالمية سيدة الوهابية التي يمثلها هذا الوهابي و طبعا نحن نتسال لماذا افتي شيوخ الوهابية بالجهاد في افغانستان و يحرمونه الان بطرق خبيثة ملتوية بدعوى انه لا يوجد امام !! لماذا اذا افتوا بالجهاد ضد السوفيت فيعدم وجود امام ؟؟؟ طبعا الاجابة واضحة و لا تحتاج لكثير ذكاء او عبقرية و هو لان الجهاد في افغانستان تقاطع مع المصالح الغربية لذلك افتوا به , اما الآن فانه ضد مصالح الصهيونية و الصليبية العالمية .
5- الرجل يتحدث في الامور العسكرية و هو ليس عسكريا ؟؟!! و يتحدث عن المقاومة في فلسطين كأنه مجموعة من المتهورين الحمقي و السذج و انهم ليس لديهم اي خبرة عسكرية , واضح انه يتغابى .
6- الرجل يحقر من شآن عامة المسلميتن الذين لا يقدرون على الحرب و الجهاد و لذلك يجب على قادة الجيش ان يستخدموا الشجعان منهم في هذه العمليات (الانتحارية) , و كأن عامة المسلمون الذين مثل الساقة و الطباخين لا يستحقون الحياة اما الجنود فلا يجب التضحية بهم !!!!! منطق غريب و عجيب .
7- و نستغرب منه انه يحرم ان يفجر اي مسلم نفسه في سبيل قتل 3 او 4 من الاعداء فهذا لا يجوز عنده !!! , و انا استغرب من هذا الجهال مدقع بامور السياسة و العلوم العسكرية التي لا يفهمها هذا الغبي الجاهل و يقول ان هذا المر لا يجوز لانه ليس صادر عن امير و طبعا هذا الخبيث يريد ان يظل المسلمون نائمون و خاضعون لاعدائهم حتى يتنزل عليهم الامير من السماء لينقذهم , و طبعا ليس بخافي على اي مسلم ان اعداد اليهود قليلة و اي خسارة بشرية تؤثر فيهم , لذلك فان قتل 3 او 4 لهو رقم ضخم بالنسبة لهم , و ايضا لا يخفي على اي انسان الاثر النفسي الرهيب الذي يحدث في المجتمع الصهيوني نتيجة هذه العمليات , و كيف يمكن لنثل هذه العمليات ان تكون آلية ردع للصهاينة اذا ارادوا عمل اي عملية ضد الفلسطينيين .
8- و يقول ايضا انه يجب سد باب العمليات الانتحارية (الاستشهادية يعني) حتى يأتي امير او خليفة و هذا طبعا محاولة لتضليل الناس ياسم الدين لضرب الدين برجل يدعي انه عالم دين و طبعا كل لجعل لامسلمون ينصرفون عن اي عمل مقاوم بدعوى انه لا يوجد امير و طبعا هذا جهل و تخلف وخدمة اسياده اليهود و الرجل لم يشرح لنا كيف ياتي الامير او الخليفة الذي سيحرر المسلمون و يرفع عنهم و عن البشرية الظلم و نسى ايضا ان يقول انه سوف ينزل من السماء راكبا حصانا ابيض و متوشحا بسيف !!!!.
9- يقول محارب الدين الالباني ان العمليات الانتحارية ( الاستشهادية يعني) لم تغير شيء في المجتمعات الاسلامية و هذا كذب و افتراء , لان هذه العمليات جعلت الناس تعلم و تتيقن انه لا سبيل للنصر و العزة الا بالاسلام و بالتضحية في سبيله , و طبعا مما هو معلوم ان هذه العمليات صاحبتها صحوة عظيمة في المجتمعات الاسلامية و ان اغلب من قاموا بها كانوا متدينون و يجب ذكر ان هذه العمليات القت الرعب و الخوف في قلب المجتمع اليهودي و ضربت اقتصادهم و كانت سبب رئيسي في الهجرة العكسية من لليهود من فلسطين يعني اليهود هاجروا من فلسطين بسبب هذه العمليات التي يحرمها محارب الدين الالباني و يريدنا ان نكف عنها حتى يرجع اليهود الى فلسطين الحبيبة !!!.
10- الالباني يشكك في عقيدة المنتحرين ( الاستشهديين ) و هذا طبعا نوع من الدعية السوداء لكي يثني الشباب المسلم الفلسطيني عن مثل هذه الامور و ليحدث بلبة فكرية في اوساط المجتمع الفلسطيني خاصة و الاسلامي عامة , و لجعل الناس ترتاب في مصير هؤلاء الذين ينتحرون و جعلهم يتسالون هل هم في الجنة ام هم في النار لان المنتحر يدخل جهنم .
11- الالباني يقول ان جماعة حماس ليست حركة اسلامية شئتم ام ابيتم و هذا ما قاله بالنص و طبعا هذا شيء غريب و عجيب ان تتهم حماس بمثل هذا الامر و هذا طبعا لا يخدم الا منظمة فتح العلمانية و الصهيونية و الصليبية العالمية و جعل المسلمون ينفرون عن حماس و يبتعدوا عنها .
12- و احد أغبياء تلاميذه يسآل هل يجوز التبرع بالمال لحماس و طبعا هذا سؤال لا ينم فقط عن الغباء و لن ايضا ينم عن نفسية الوهابيين السلفيين تجاه كل ما هو ليس على مذهبهم الباطل , و كأن حماس ليست مسلمة و كأن الشعب الفلسطيني لا يستحق التبرع فيرد الالباني مستعجبا من غباء تلميذا او ممكن نقول تقية بنعم بالطبع و لكن تلميذ يقول حتى و عملوا مظاهرات ؟؟؟ و عند هذه الكلمة يجب ان نتوقف قليلا , انا لا افهم هل كل من عمل مظاهرات يخرج من الملة او يكّفر ؟؟!! شيء عجيب و غريب و لا اعلم لماذا كل ما هو ضد اليهود و الصليبيين و الحكام الجائرين حرام عند هؤلاء القوم , لمصلحة من هذا التخلف و الغباء و هذا الفهم العوج للاسلام بل هذا الفهم الخطاء للاسلام و طبعا انتقد محارب الدين الالباني المظاهرات و هذا شيء متوقع .
13- شيء غريب جدا اخر , يقول التلميذ للاستاذ مستنكرا ان حماس دعت المسلمين لتهنئة النصارى باعيادهم فيرد الشيخ مستنكرا بقوله مع الاسف !!!! و انا استغرب فعلا من هؤلاء الحمقى الذين لا يفهمون الدين الذي يدعون انهم يفهموه الم يذكر الله في كتابه العزيز هذه الاية " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" اليست هذه الاية في القراءن ام ماذا يا جهلاء الوهابية ان الاية تصرح ان الله لا ينهى المسلمون عن بر الكفار الغير معادين للاسلام , كلام واضح لكن عقولهم جامدة متحجرة على ما اعتنقوه من فكر متخلف و بدوي و لكن بغض النظر عن ذلك اليس من مقتضيات السياسة التي تحتم على حماس ان تعامل النصارى بشكل طيب و بطريقة حسنى , حتى لا يفتحوا على انفسهم جبهة داخلية معادية لهم مثل منظمة فتح المعادية لهم , اين عقول الذين يتحدثون باسم الاسلام و هم لا يفقهون اي شيء عن الاسلام او السياسة و الاقتصاد الشرعيين .
14- في النهاية واضح جدا غباء و تخريب القوم للامة الاسلامية و محاولتها بطرق خبيثة تدمير الوعي و تدمير اي محاولة اسلامية للتحرر و النهضة و لضرب اي قائمة للدين الاسلامي من اجل اسياد الوهابية الصهيونيين و الصليبيين الجدد .

الجمعة، 24 أكتوبر 2008

العرب و المسلمون و معرفتهم و دراستهم للغة الهيروغليفية و علوم مصر القديمة

مما هو معروف و مشهور بين عامة الناس و علماء المصريات ان مع قدوم النصرانية لمصر و دخول الاسلام الحنيف لمصر انقرضت اللغة المصرية القديمة .
و هذا ثبت خطاءه , بل العكس قد قام المسلمون عربهم و عجمهم بالاهتمام بلغة مصر القديمة , لان المسلمون كانوا يعتقدون ان مصر هي مستودع العلوم و الاسرار لذلك ارادوا الولوج لهذا الكنز عن طريق تعلم لغات مصر القديمة .
و ايضا معرفة الكثير و الكثير من المسلمون للغة اهل مصر القديمة , و اهتمام المسلمون باللغة اليونانية لانهم كانوا يعلمون انه كتب و حفظ بها الكثير و الكثير من العلوم المصرية القديمة و يجدر الاشارة ان اللغة اليونانية كانت اللغة الرسمية في مصر في عهد الحكام اليونان بالطبع و الاباطرة الرومان , و لذلك ينجلي لنا تفسير لماذا اهتم المسلمون باللغة اليونانية القديمة ايما اهتمام .
و ايضا يجب ان نعرف ان في مراكز الترجمة في بغداد عاصمة الدينا انذاك , كان يوجد مترجمين اقباط و يونان و سريان ....الخ , و هذا يؤكد انه كان هناك حركة ترجمة من اللغة القبطية الاولى (و هو الاسم الذي اطلقه العرب على الهيروغليفية) و اللغة القبطية العامية او ما يعرف بالديموطيقية .
على كل حال يمكنكم الاطلاع على بحث قدمه علامة الاثار المصرية بن مصر البار د.عكاشة الدالي الذي قدمه لمكتبة الاسكندرية .
http://www.bibalex.org/English/Egyptology/arabscientists.pdf

كليوباترا «الذكية»... مؤلفة كتب في الفلسفة والطب.. والسم و ليست زانية كما يدعي الغرب الصليبي

المؤرخون العرب لم يهتموا بجمالها بل بثقافتها
لندن: «الشرق الاوسط»
من بين كل نساء الأرض، ليست هناك امرأة أثارت اهتمام المؤرخين والشعراء والكتاب وعلماء المصريات، كما أثارت كليوباترا الجميلة الاهتمام. غير انه في كتاب صدر أخيرا للباحث المصري، الدكتور عكاشة الدالي الذي يعمل في جامعة لندن، اتضح ان الملكة الفرعونية لم تثر الاهتمام فقط بسبب جمالها، بل بالأساس بسبب علمها الغزير وثقافتها وقدراتها العقلية المبهرة. ولاحظ الدكتور الدالي في كتابه «في علم المصريات.. الألفية المفقودة» أن مؤرخي الغرب انصب اهتمامهم بالأساس على جمال الملكة، والذي طوقت كيلوباترا به مارك انطوني ويوليوس قيصر، فيما انصب اهتمام المؤرخين العرب مثل المسعودى، فى القرن العاشر، في «مروج الذهب» وابن عبد الحكم، في القرن التاسع، في «فتوح مصر» على ثقافة وذكاء كيلوباترا وتفقها في الكثير من العلوم. ويشير الدكتور الدالي الى ان أيا من المصادر العربية لم يتطرق الى الملامح الجسدية او شكل الملكة الفرعونية، وهو أمر مثير للانتباه نظرا لأن المصادر الغربية دأبت على وصفها بأنها امرأة لعوب تستغل جمالها لتحقيق مطامعها السياسية. وبحسب المصادر العربية الموثقة التي اعتمد عليها الدالي في كتابه، فان الملكة الفرعونية كانت لها اهتمامات فلسفية، وأن لها كتابا بعنوان «حوار الفلاسفة» عبارة عن محتوى مناقشاتها الفلسفية مع المفكرين والفلاسفة في بلاطها. كما ان لكيلوباترا كتابا مشهورا بعنوان «رسالة كيلوباترا في السموم»، وهو منشور بالإنجليزية. كما لها كتاب حول أدوات التجميل، وعن علم طب النساء. وبحسب المصادر ايضا، فان الملكة الفرعونية طورت أداة في التحاليل الكيمائية، كما اهتمت بالحساب. وأضاف الدكتور الدالي لـ«الشرق الاوسط» ان كتابه الذي انصب أساسا على ظاهرة تجاهل المصادر العربية في حقل الآثار نال الكثير من الاهتمام، إلا ان الصفحات التي خصصها في الكتاب حول كيلوباترا والمصادر العربية التي تناولتها نال أكبر قدر من الاهتمام حتى الآن.

الخميس، 23 أكتوبر 2008

زوجات وأمهات تركيات في القصر العباسي

البروفيسور أكرم باموقجي ـ انقرة
ترجمة : نصرت مردان

كان العصر العباسي، مثل كل العصور الحضارية في تاريخ العراق، منذ بابل ونينوى، متميز بالانفتاح الثقافي على مختلف الشعوب والاديان المنضوية تحت راية الامبراطوية العباسية. فقد اصبحت بغداد، مثل سابقتها بابل، اشبه بالبحر الفضاض الذي تصب فيه ما لا يحصى من الانهر القادمة من كل المناطق القريبة والبعيدة، من تركستان والهند وافغانستان وايران والقفقاس والاناضول والشام ومصر وجزيرة العرب، بل حتى من اوربا وشواطئ البحر المتوسط. وقد تجلها هذا الانصهار ليس فقط بالناحية الثقافية بل ايضا بالنواحي الانسانية من خلال التزاوج. وقد بدأ هذا التزاوج المتعدد الاعراق بين الناس في الحواضر العراقية، اولا بين العراقيين الاصليين(الموالي) مع العرب المسلمين الفاتحين.. ثم اتسع هذا التزاوج ليشمل مختلف الجماعات الجديدة التي جلبهم العباسيون، ومن اهم الاتراك الذي اتوا اولا كمحاربين للدفاع عن الخلافة ثم كقبائل مهيمنة مشاكرة في قياجدة السلطة مثل السلاجقة. وهذا التزواج الذي كان في بدايته بين ابناء العامة، اتسع ليشمل الطبقة العليا والخلفاء انفسهم. بحيث ان الغالبية الساحقة من خلفاء بغداد هم من امهات غير عربيات، والكثيرات منهن تركيات.

النساء لدى الاتراك

شكلت ( اوغوش ـ العائلة ) نواة الحياة الاجتماعية للمجتمعات التركية منذ العصور القديمة. وكانت قبائل الأوغوز ( الغز) كما تؤكد الروايات تتحاشى أي شيء من شأنه إيذاء المرأة، أو إثارة سخطها. وتروي الأساطير وسير الرحالة على أن تلك المجتمعات كانت تكتفي بالزوجة الواحدة.
ويروي ابن فضلان الذي حل ضيفا على عوائل عديدة في هذا الموضوع :
(( شهدت منهم تصرفات تجاه النساء تنم عن المودة والاحترام. كان السادة والأبطال يتصرفون حسب مشوراتهن. وكان الأبطال ينادون نساءهم بـ " كوركوم " أي " جميلتي ". كان الزواج من امرأة واحدة اساسا في هذ المجتمعات )).

وكان فرسان الأوغوز يفضلون الزواج من فارسات يجدن الفروسية واستعمال السيف. وقد أبدى أحد الرحالة الأوربيين اعجابه بهن ووصفهن بأنهن " نساء شجاعات "، يحاربن كالرجال.
ولعل المثل الذي ورد في " ديوان لغات الترك " والقائل " مصارعات بصلابة يسابقن الفرس ". كما ورد في " الأوغوزنامه " بأنهن قد تولين إدارة القبيلة، يسلط الضوء على أهمية دور المرأة في هذه المجتمعات.
لم يكن إنجاب بنت مدعاة للعار كما في بعض القبائل، بل بالعكس كان تعبيرا عن الفضيلة.حيث أن بيجان بك، طلب من سادة أوغوز الابتهال إلى الله كي يرزقه ببنت. كما لعبت النساء دورا هاما في اعتناق الترك للدين الإسلامي من جهة وفي التقارب بين الحضارتين العربية والتركية. وقد بلغت هذه الاسهامة ذروتها في زمن الخلافة العباسية وعهد الإمبراطورية السلجوقية. وقد تبلور دور النساء في التقارب بين القوتين الكبيرتين بشكل أكثر جلاء في المجال الاجتماعي والذي استمر لسبعة قرون متتالية.
لم تختلف النساء في التاريخ التركي عن الرجال. فعندما حاصرت الجيوش الإسلامية بقيادة عبيدالله بن زياد في 673 م، بخارى كانت قبج أو كانيك خاتون تحكم بخارى وضواحيها وبموجب اتفاق مع عبيدالله تم التوقيع على اتفاقية السلام مقابل تزويده بألفين من المحاربين الترك الأشداء. وقد نقل القائد الأموي المحاربين الى البصرة واسكنهم في حي من أحيائها سمي فيما بعد بحي بخارى. هذه الحادثة مهمة من ناحيتين اولهما : أرخ وصول المقاتلين الترك العراق من الجنوب بداية الاستيطان.، وثانيهما أنهم أول وجبة من الترك الذين انخرطوا في الجيش الإسلامي. وأخيرا ان أميرة تركية لعبت دورا هاما في وصولهم الى العراق.

بلغت الدولة السلجوقية ذروتها على يد مؤسسها الحقيقي طغرل بك، ولعل اعتماده على العادة التركية القديمة في ضرورة اقتران أشراف القبيلة فيما بينها لتوطيد الأواصر السياسية وتمتين العلاقات سببا أساسيا في نجاح سياسته في إيصال الدولة إلى مرحلة الازدهار والاستقرار السياسيين. وكان ذلك أحد الأسباب المهمة في تزويج ابنة أخيه جاغري بك، خديجة أرسلان خاتون من الخليفة العباسي القائم بأمر الله.
وقد أصبحت العديد من النساء التركيات على ضوء هذه السياسة سيدات القصر العباسي. كما أصبح فيما بعد زواج الخلفاء العباسيين من هؤلاء تقليدا سار عليه العديدون منهم عليه.
اكتسبت هذه الزيجات أهمية سياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية، وساهمت في تفعيل العلاقات العربية التركية فوق خارطة واسعة تدين بالإسلام. كما ساهمت في الثراء الثقافي بينهما والى توثيق العلاقات العسكرية. هنالك أسباب عديدة لتفضيل الخلفاء العباسيين هذه الزيجات منها، قوة الشخصية التي تمتاز بها الأم التركية، والتي تنعكس إيجابا على أبنائها. ولعل أهم مزايا الأمهات التركيات إلى جانب جمالهن وذكائهن الحاد ، هواشتراكهن في الحروب إلى جانب أزواجهن. إضافة لرغبة الخلفاء العباسيين في توطيد العلاقات مع المجتمعات التركية.

بطبيعة الحال لم تكن علاقات الزواج منحصرة بالجانب العباسي بل أن السلاطين الأتراك كانوا يعتبرون الزيجة من بنات الخلفاء بمثابة دخولهم في أواصر القربى من النبي ( ص) على أساس أن العباسيين هم أبناء عمومة الرسول. لذلك تزوج طغرل بك من ابنة الخليفة القائم بأمر الله، السيدة فاطمة. لم يكن زواج رجالات الترك من بنات الخليفة لغرض سياسي بحت بل كان بسبب محبتهم المتجذرة في أعماقهم للرسول (ص) ولذريته وأصهاره.
ان احترام الترك للنبي وذريته كان من المبررات الهامة لتقربهم من العباسيين أكثر من الأمويين. لذلك كانوا يعتبرون المصاهرة مع الخلفاء العباسيين والزواج من الأميرات العباسيات شرف ما بعده شرف. وليس أدل على ذلك من وصية ألتون جان خاتون لزوجها السلطان السلجوقي طغرل بك :
" أوصيك بالزواج بعد وفاتي من ابنة الخليفة العباسي فهم أبناء عمومة الرسول الكريم. بذلك ستنال السعادة في الدنيا والآخرة ".
لم تكن هي فقط مقتنعة بل بهذه القناعة بل توارثتها أميرات أخريات أمثال بيبي توركن خاتون وأبيش خاتون. ولم تكن هذه النساء أو غيرهن بارزات في الصعيد السياسي فحسب بل تركن في الحياة الحضارية والثقافية الإسلامية أثارا فاحصة، والتي انعكست في بناء المدارس والمساجد والكليات والمستشفيات لا يزال أغلبها يحمل أسمائهن.
وهناك بعض الآثار التي خلدت ذكر هذه الأمهات في بغداد والموصل ومنها جامع زمرد خاتون ببغداد، وقامت بتشييده زمرد خاتون أم الخليفة الناصر والتي توفيت في 1202 وفيه ضريحها .

وخلال خمسة قرون ( 750 ـ 1258 ) اقترن معظم الخلفاء العباسيين ( من مجموع 37 خليفة ) بسيدات تركيات في مراحل مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر :
ابنة ملك سمرقند، زوجة الخليفة المنصور. مراجل خاتون و ماريدا خاتون زوجتا الخليفة الرشيد. شجاعة خاتون زوجة المعتصم. جيجك خاتون، قطر الندى وسغاب زوجة المعتضد. كما تزوج الخلفاء العباسيين من 8 أميرات سلجوقيات :
خديجة أصلان خاتون زوجة الخليفة القائم بأمر الله . سفري، ماه ملك وآلتون خاتون، زوجات الخليفة المقتدي. كوموش و عصمت خاتون، زوجتا الخليفة المستظهر.أمينة وتورك خاتون زوجتا المسترشد. فاطمة خاتون زوجة المكتفي. زمرد خاتون زوجة المستضيء بالله. سلجوقة خاتون زوجة الخليفة الناصر بالله. تورك خاتون زوجة الخليفة الظاهر.

أما الخلفاء من أمهات تركيات فهم :
مراجل أم المأمون(لم تكن فارسية كما ظن البعض). ماريدا خاتون أم المعتصم. شجاعة خاتون أم الخليفة المتوكل. سغاب خاتون أم الخليفة المقتدي. آلتون خاتون أم الخليفة المستظهر. كوموش خاتون أم الخليفة المسترشد. زمرد خاتون أم الخليفة الناصر. سلجوقة خاتون أم الملك الظاهر. تورك خاتون أم المستنصر.
ومن المفيد هنا التحدث بإيجاز عن بعض الشخصيات النسائية التي لعبت أدوارا هاما في القصر العباسي في بغداد :


شجاعة خاتون ام الخليفة المتوكل
من أتراك خوارزم. أنجبت بعد زواجها من المعتصم سنة 205 هجرية ( المتوكل ). اهتمت بأعمال البر والإحسان وقد قامت بعد تولي ابنها المتوكل الخلافة سنة 237 بأداء فريضة الحج حيث رافقها ابنها الخليفة من سامراء الى النجف. وكان يرافقها أيضا حفيدها المستنصر.
بادرت بعد سماعها بجفاف النهر الذي يصل الى جبال الطائف وعرفات في الأرض المقدسة نتيجة تخريبات الى إرسال رسل للتقصي ولإصلاح النهر في أقرب وقت. حيث دفعت تكاليف المشروع من جيبها الخاص.
وثمة أثار تاريخية شاخصة في بغداد وواسط ومكة تحمل اسم هذه السيدة الكريمة.
توفيت شجاعة خاتون قبل مقتل ابنها المتوكل بستة أشهر، حيث صلى على جثمانها حفيدها المستنصر بالله. وقد دفنت في جامع المتوكلية وهو اليوم موجود بمنطقة ( أبي دلف ).
كتب عنها أحد المؤرخين قائلا :
" توفيت في هذا العام شجاعة خاتون. وكانت تتصف بالبر والتقوى ليس في العالم من يضاهيها في كونها أما لخليفة وجدة لثلاثة أحفاد تولوا الخلافة ( المستنصر والمعتز والمؤيد ) "

قطر الندى زوجة الخليفة المتعضد
وكان في القصر العباسي أميرتان تحملان هذا الاسم أحداهما هي أم الخليفة القائم بأمر الله وتدعى عالم. والأخرى ابنة حمرويه ذو الأصول التركية واسمها الحقيقي أسماء وقد لقبت بقطر الندى. وهي حفيدة أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية والذي ولد في العراق سنة 250 هجرية. ثم انتقل مع أبيه الى مصر حيث تزوج هناك ورزق بقطر الندى. ويكتفي المؤرخون بوصفها على أنها كانت ذات جمال خارق، وتمتاز بالذكاء.
جريا على عادة تلك الفترة فقد كانت التقاليد تقضي بتزويج الحكام بناتهم من عوائل ذات حسب ونسب. وقد فعل حمرويه ذلك أيضا بتزويج كريمته قطر الندى من الخليفة المعتضد بالله.
وقد جرت مراسيم الزواج وسط مشاعر فرح عارمة حيث وصلت قطر الندى بغداد في 282 هجرية. وأصبحت سيدة القصر العباسي، واستمر زواجها خمسة أعوام، حيث توفيت في ريعان شبابها 287 هجرية فدفنت ببغداد على مقربة من ضريح الإمام الأعظم في الرصافة.

خديجة أرسلان خاتون زوجة الخليفة القائم
تعتبر من أهم وأعظم سيدات القصر العباسي. وقد اقترنت بالخليفة العباسي القائم بأمر الله. أطلق عليها اسم خديجة تبركا باسم أم المؤمنين خديجة زوجة الرسول (ص).
وهي ابنة شقيق طغرل بك مؤسس الإمبراطورية السلجوقية، والمدعو جاغري بك واسمها الحقيقي أصلان خاتون. وقد تم الزواج بناء على رغبة عمها طغرل بك في مصاهرة الخليفة، بهدف تقوية دعائم الدولة السلجوقية ولنيل شرف مصاهرة سلالة الرسول الكريم (ص). وقد حرصت طوال سنوات زواجها من الخليفة التي يكبرها في السن على أن تكون الى جانب زوجه مهما كانت الظروف.
إلا أن خديجة أرسلان اضطرت رغم ذلك للبقاء بعيدا عن زوجها الحبيب بعد استيلاء القائد بصاصيري على بغداد، وقيامه بنفي الخليفة الى حديثة عانة عام 450 للهجرة، حيث ظلت تقاسي أثار المحنة التي تعرض لها زوجها رغم تكريم بصاصيري لوفادها وتسليمها الى أبي عبدالله بن جردة وهو من أعيان بغداد في تلك الفترة. وازدادت محنة خديجة أرسلان خاتون اثر وفاة والدها جاغري بك في خراسان بعد عام واحد من إرسال زوجها الخليفة الى المنفى.
وافق فيما بعد القائد بصاصيري الى إرسالها الى عمها طغرل بك. وفور وصولها الى هناك بادرت الى إرسال المال والملابس الى زوجها الخليفة المنفي. وقد اضطرت أمام الظروف القاهرة الى البقاء مع عمها حتى عام 445 للهجرة. وعند عودة الخليفة الى بغداد ثانية، بعثها عمها طغرل بك مع معونات ومؤن كثيرة. إلا أن الخليفة الذي أدركته الشيخوخة اعتزل أمور الدنيا، حيث انزوى متزهدا متعبدا دون ان يهتم بما يجري حوله. الأمر الذي أرغم أرسلان خاتون بعد موافقة زوجها للعودة ثانية الى بلادها حيث عمها طغرل بك الذي أدركته المنية سنة 454 هجرية. في عام 458 للهجرة بعث الخليفة القائم بأمر الله رسالة الى القائد ألب أرسلان شقيق زوجته خديجة أرسلان مهنئا إياه بنصره على البيزنطيين، وطالبا منه في الوقت نفسه أن يبعث بزوجته الى بغداد. عند عودتها الى زوجها الخليقة أقيمت مراسم الفرح في بغداد فرحا بقدوم زوجة الخليفة. واندفع سكان المدينة للخروج الى ضواحي المدينة للترحيب بقدومها. ولم يتحدث المؤرخون عنها بعد هذه الفترة قط.

آلتون خاتون ( ماه ملك ) زوجة الخليفة المقتدي
التون خاتون زوجة الخليفة العباسي المقتدي بالله، هي ابنة السلطان السلجوقي ملكشاه. أوفد الخليفة وزيره فخرالدين الى أصفهان مع هدايا ثمينة ليطلب يدها من والدها ملكشاه. عام 474 للهجرة. وتطلب والدتها توركان خانم، كشرط على موافقتها ضرورة وجود أم الخليفة وعمته في حفلة الخطوبة التي ستقام في أصفهان. بعد مرور أعوام خمسة على الخطوبة تتوجه ألتون خانم برفقة والدتها الى بغداد. ملكشاه قد وصل بغداد بعد فتحه بلاد الشام.
رزقت آلتون خاتون بعد عام من اقترانها من الخليفة، بصبي أطلق عليه اسم جعفر. وبلغ حب الخليفة بولده الى درجة إهمال زوجته التي نقلت شكواها الى والدها ملكشاه الذي يطلب بدوره من الخليفة أن يسمح لها بزيارة أصفهان مع حفيده جعفر. بعد بقائها فترة هناك تصاب آلتون خاتون بالمرض وتدركها المنية، فينقل جثمانها الى بغداد كما ينقل إليها جثمان والدها بعد وفاته في 485 للهجرة حيث يدفن في مقبرة جنيد.

كوموش ( عصمت ) خاتون زوجة الخليفة المستظهر
هي الابنة الثانية للسلطان السلجوقي ملكشاه، والتي تزوجت من الخليفة المستظهر بالله، حيث توجهت اثر ذلك من أصفهان الى بغداد في 504 للهجرة. وقد اشتهرت اسم زوجة الخليفة من خلال أشرافها على بناء قلاع فوق أبواب الحصون التي تبنى لحماية بغداد. كما تولت أيضا إصلاح الأحياء الفقيرة في المدينة. وبوفاة الخليفة المستظهر بعد ثمانية أعوام من هذا الزواج، يتولى العرش ابنه ولي العهد.

فاطمة خاتون
وهي حفيدة السلطان السلجوقي ملكشاه من ابنه السلطان محمد. وهو أحد أبنائه الخمسة محمود ومسعود وطغرل وسليمان وسلجوق الذين تولوا عرش الدولة السلجوقية جميعا. وقد لعب عمها السلطان سنجر وشقيقها السلطان مسعود دورا مهما في إتمام هذه الزيجة التي تمت في عام 543 للهجرة.
تؤكد المصادر التاريخية الى كونها سيدة فاضلة، قوية الشكيمة والعزيمة، أحبت أعمال البر والإحسان والتقوى. بعد نجاة الخليفة من حريق هائل أتى على القصر، قامت فاطمة خاتون في اليوم التالي من الحريق بالإيعاز الى الخليفة لإطلاق سراح جميع المساجين ابتهاجا بسلامته، وزعت فيه الكثير من المساعدات والمؤن على الفقراء والمحتاجين. لم تعش فاطمة خاتون طويلا بعد حادث الحريق، حيث توفيت سنة 542 هجرية، وقد صلى على جثمانها الشيخ أبو قاسم الحنفي وتم دفنها في الرصافة الى جانب ضريح حماها الخليفة المستظهر بالله.
يقول عنها المؤرخ الإنكليزي كاي تسترتيتس :
" امتازت فاطمة خاتون بحدة ذكائها وبصيرتها ودرايتها بالشؤون السياسية مما أكسبها شهرة واسعة. توفيت قبل زوجها المكتفي في مسجد القصر ودفنت وسط احتفال مهيب في الرصافة ".كما يؤيد هذا الرأي بدوره ابن خلكان في كتابه ( وفيات الأعيان ).

زمرد خاتون زوجة الخليفة المستضيء
زوجة الخليفة المستضيء بالله. قدمت من شرقي تركستان الى بغداد واحتلت مكانها كجارية في القصر العباسي. إلا أنها استطاعت ان تثير إعجاب الخليفة بجمالها فتزوجها سنة 552 هجرية، وقد أنجبت أحمد الناصر لدين الله الذي أصبح فيما من أهم خلفاء تلك الفترة.
انتقل زهد الخليفة وتدينه الى زوجته أيضا، والتي تفرغت لأعمال البر والتقوى والخير.ونظرا لانتمائها الى المذهب الشافعي، قامت ببناء مدرسة وجامع وضريح لها قرب ضريح الشيخ معروف الكرخي. وهو الضريح المعروف بمرقد الست زبيدة. وقد قامت بتأسيس وقف تبرعت بكل ما تملك للإشراف على المدرسة التي ألحق بها قسم داخلي لإقامة الطلبة القادمين من بلاد بعيدة في سبيل العلم وعينت فيه خير أساتذة وعلماء الفقه. كما قامت بإنشاء جامع جنوبي مدرسة المستنصرية الواقعة على ضفاف نهر دجلة. ويعرف هذا المسجد بمسجد الحفافين. وتعتبر المصادر التاريخية منارتها أقدم منارة في بغداد. والذي يعود تاريخه الى السنة السادسة للهجرة. وقد أقيمت منائر بغداد فيما بعد على طرازها. ويتفق العلامة مصطفى جواد كمعظم المؤرخين ان زمرد خاتون كانت محبة للخير والإحسان وأعمال البر والإصلاح، إضافة الى اهتمامها بالعلم والعلماء.

يقول عنها المؤرخ المعروف سبط ابن الجوزي بأنها " كانت امرأة صالحة. متدينة، تحب الخير والإحسان، اعتادت في موسم الحج على توزيع 300 آلاف دينار على الحجيج و كانت تنفق بسخاء على المحتاجين في مكة والمدينة عند وصولها لأداء مراسم الحج. كما كانت تهتم بشكل خاص بإصلاح آبار وينابيع المياه "
عند وفاتها في 599 للهجرة تأثر ابنها الخليفة الناصر لدين الله تأثر قل نظيره بين الخلفاء.

سلجوقة خاتون ام الخليفة الظاهر بامره
ولدت بمدينة قونيه بالأناضول في قصر والدها السلطان قلج الثاني الذي كان قد رزق بثلاث بنات. تزوجت من الأمير نورالدين أحد الشخصيات المهمة في الأناضول الشرقية. إلا ان انشغال الأمير عنها بمغنية في بلاطه أدى الى افتراقها عنه وعودتها الى قونية. وقد أدى ذلك الى تردي العلاقات بين الدولتين والى تطور الأمور بينهما الى درجة القتال بين جيشهما، وعند شعور الأمير نورالدين بأن الهزيمة ستلحق بجيشه لا محالة، استشار القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي طلب منه إنهاء علاقته بمغنية قصره أولا والتودد الى زوجته ومحاولة إرضائها. كما طلب من جانب آخر من السلطان قلج الثاني ان يصفح عن صهره وقد فعل السلطان ذلك احتراما لطلب صلاح الدين. إلا ان الأمير نصرالدين توفي بعد ذلك بفترة قصيرة، عادت سلجوقة خاتون على أثره الى قصرها.
صادفت سلجوقة خاتون الخليفة العباسي الناصر لدين الله في إحدى زياراتها لبيت الله الحرام. حيث استقبلها لدى وصولها الى بغداد أحسن استقبال موفرا لها كل أسباب الراحة والاستجمام في قصر بني خصيصا لإقامتها احتراما من الخليفة العباسي لسمعة والدها السلطان قلج الثاني. وقد فاتحها الخليفة برغبته في الزواج منها في إحدى زيارته لها. وقد ردت عليه برقة قائلة، أنا الآن ذاهبة لزيارة بيت الله الحرام، لا أمانع عند العودة من الزواج بعد موافقة والدي. جريا على عادة ذلك الزمان تحركت حجيج من شتى البقاع الأناضول وأذربيجان وإيران وبقية المناطق التركية تحت رعاية سلجوقة خاتون وقيادة أمير الحج طاشتكين.
انجبت سلجوقة خاتون من هذا الزواج ولدين هما : أبو حسن الذي توفي في سن مبكرة والأمير أبو ناصر محمد الذي توفي في 622 للهجرة الموافق 1225 ميلادية وقد اشتهر خلال خلافته باسم الظاهر بأمره.
استمر زواج سلجوقة خاتون من الخليفة الناصر ثلاثة أعوام حيث توفيت وهي في الثلاثين من عمرها اثر مرض عضال. وقد تأثر الخليفة تأثرا بالغا لوفاتها تحدث عنه ابن الأثير قائلا :" خلفت وفاتها تأثرا بالغل في نفس الخليفة وقد شاركته رعيته في حزنه على هذا المصاب الجلل " ومن فرط تأثره أمر الخليفة بهدم القصر الذي عاش فيه معها أسعد أيامه، فلم يعد للقصر ورياضه الخلابة أهمية تذكر بعد فقدانه لزوجته الغالية. كما أمر بإقامة ضريح يليق بها يذكر المرء بتاج محل. وإكراما لذكراها بني زوجها الخليفة الناصر مأوى للفقراء وأبناء السبيل قرب هذا الضريح. وقد تحول قبر سلجوقة خاتون بمرور الزمن الى مزار يقصده العامة للتبرك. وهو ما دفع المؤرخ المعروف أبو الفرج الى وصفها " كان هذا المكان فيما مضى يشبه المعبد. واليوم تقام فيه الصلوات وتوزع النذور ".

يستنتج مما تقدم ان العلاقات الوطيدة بين الترك والعباسيين عاشت عصرها الذهبي مع تأسيس الدولة السلجوقية على يد مؤسسها طغرل بك ( 1040 ـ 1063 ) وحتى حكم السلطان السلجوقي قلج الثاني ( 1156 ـ 1192 ) لمدة قرنين متتاليين من الزمن حيث بلغت هذه العلاقات ذروتها بالتصاهر ساهمت في إيصال العلاقات بينهما الى الذروة. حيث يصح القول انه من النادر أن نجد خليفة عباسي لم يتزوج من أميرات تركيات أو خلفاء لا ينتسبون الى الترك من ناحية امهاتم. ولا عجب في ذلك فالمعروف عن السلاجقة عظم محبتهم لآل البيت وتفاتيهم في سبيل الإسلام. يقول محمد بن محمد مؤلف كتاب سلجوقنامه في هذا الخصوص :
" تصحفت التاريخ ويعلم المطلعون على بواطنه أن ما تحقق على أيدي السلاجقة من نظام وانتظام وتجسيد لمباديء العدالة والاستقامة ومراعاة مباديء الشريعة السنة النبوية، لم يحدث في زمن من سبقوهم من السلاطين. ليديم المولى ظلهم الى يوم الدين. "

المصادر :

-Abul Faraç، Gregory Bar Hebraeus، “Abul Faraç Tarihi”، trc: Ö.R.Doğrul، Ankara، 1987.
-Ahmed b. Mahmud، “Selçukname”، Tahk. E. Merçil، İstanbul،1977.
-Barhold W.، “Moğol İstlasına Kadar Türkistan”، Tahk. H.D. Yıldız، İstanbul، 1981.
-el Mesudi، “Mürücü’z-Zeheb”، Mısır، 1964.
-ez Zehebi، ”Siyerü Alamün - Nübebi”، Beyrut، 1986.
-İbn İmad، “Şezeratü’z-Zeheb”، Bağdat.
-İbn Tağrıberdi، “en-Nücumüz-Zahire”، Kahire، 1930.
-İbni Faldan، “Risaletü İnn Fadlan”، Tahk. S. Ed-Dahhan، Dımışk، 1960.
-İbnu’l-Esir، “el-Kamil fit-Tarih”، Beyrut، 1966.
-Köymen M. A.، “Tuğrul Bey ve Zamanı” İstanbul، 1976.
-Köymen M. A.، “Alp Arslan ve Zamanı” İstanbul، 1983.
-Mustafa Cevad، “Seyyidat el-Bilat el-Abbasi”، Bağdat.
-Sıbt İbnu’l Cevzi، “Miratü’z - zaman”، Mısır، 1960.
-Üçok B.، “İslam Devletlerinde Türk Nebiler ve Kadın Hükümdarlar”، Ankara 1981.
-Kitapçı Z.، “Abbasi Hilafeti’nde Selçuklu Hatunları ve Türk Sultanları” Konya، 1977

مدونة بن عربي : الصوفية هي الحق هى المعرفة النورانية اللدنية

مدونة بن عربي : الصوفية هي الحق هى المعرفة النورانية اللدونية