مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقدم علم نقد العهد القديم في الغرب تقدما ملحوظا، بعد أن كان هذا العلم محظورا أو يكاد؛ بسبب موقف رجال الدين المسيحيين والكنيسة التي عارضت وقاومت أي دراسة تتعرض للعهد القديم بالنقد، وكانت دراسة الكتاب المقدس ككل تقتصر على العلوم اللاهوتية وإثبات رؤى رجال الدين وتفسيراتهم للنصوص. فقد أخذت الكنيسة على عاتقها الدفاع عن المعتقدات المسيحية وعن أصالة العهد القديم، والتأكيد على أنه وحي إلهي، وتكفير كل من يقول بأنه نص إنساني حتى وإن جاءت الدراسات لتثبت ذلك؛ وقد تعرض العديد من العلماء الألمان للتكفير لأن أبحاثهم جاءت لتقول بأن أسفار موسى الخمسة (التوراة) هي في الحقيقة نتاج إنساني تم تدوينه في أزمنة متعاقبة، وتعرض للتحرير مرارا حتى وصل إلى صورته الحالية في نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس ق.م.
وقد ساعدت الاكتشافات الأثرية والتقدم التكنولوجي في الكشف عن مصدر آخر للمعرفة باكتشاف حضارات بلاد النهرين (البابلية والآشورية)، والحضارة المصرية القديمة، والكنعانية، والعديد من النقوش والكتابات التي أسهمت في تنوع دراسات العهد القديم وتطورها تطورا غير مسبوق، وقد نشأ على إثر هذا النشاط جيل من الباحثين ممن اهتموا بدراسة العهد القديم دراسة حرة، وتبنى نتائج دراساتهم -بغض النظر عن اتفاق هذه النتائج أو اختلافها- مع النصوص التي يدرسونها، ونتيجة لذلك تنوعت مدارس نقد العهد القديم تنوعا كبيرا؛ وسوف نشير هنا إلى بعض هذه المدارس النقدية ومناهجها وطريقة عملها، ونكتفي منها بمدرسة النقد التاريخي، ثم مدرسة النقد النصي، ثم مدرسة النقد الأدبي، ونختم بالحديث عن مدرسة النقد المصدري.
1 ـ مدرسة النقد التاريخي:
ظل العهد القديم لفترة طويلة المصدر الوحيد لتاريخ منطقة الهلال الخصيب (بلاد النهرين، وبلاد الشام) ومصر، واستمر هذا الحال حتى بدأت الاكتشافات الأثرية تأخذ مجراها؛ حيث اكتشفت خبايا وأسرار وتاريخ حضارات بلاد النهرين (بابل وآشور) والحضارة المصرية، وحضارة المنطقة السورية، فقد أمدت المعلومات التي توفرت من هذه الاكتشافات الباحثين بمصدر آخر يمكن أن يدعم رواية العهد القديم التاريخية، أو يكشف عن عدم صحتها، أو تناقضها مع الروايات التاريخية التي وردت في الكتابات المكتشفة التي تعود لهذه الحضارات.
كانت هناك دوافع أساسية أدت لانطلاق الاكتشافات الأثرية التي قادها الرحالة الغربيون والقناصل، ثم العلماء والباحثون لاحقا، وكان من بين هذه الدوافع الدافع الديني خاصة فيما يتعلق بالاكتشافات في فلسطين؛ حيث رغب العديد من الأثريين في إثبات مصداقية الروايات التوراتية، والبحث عن المدن والأماكن المذكورة في الكتاب المقدس، وهذا الهدف كان يدعمه مؤسسات لاهوتية تأسست خصيصا له، منها على سبيل المثال: "المدرسة التوراتية والأثرية للقديس ايتين"، و"المعهد الإنجيلي الألماني لعلم الآثار القديمة للأرض المقدسة".
ورغم أن الهدف كان إثبات مصداقية الروايات التوراتية فإن النتائج كانت كثيرا ما تأتي عكس ذلك؛ حيث أثبتت مقارنة روايات العهد القديم التاريخية بتاريخ البابليين والآشوريين ومصر عدم دقة رواية العهد القديم، بل وعدم صحتها في كثير من الأحيان.
أما الدافع الثاني الذي يهمنا هنا فيتعلق بالمحاولات الصهيونية لإثبات الوجود الإسرائيلي القديم في فلسطين وبالتالي الادعاء بأن اليهود هم أصحاب الحق الشرعي في فلسطين وهذا من شأنه تأجيج المشاعر من أجل دفع اليهود للهجرة إلى وطنهم الأم؛ وهنا حدث تزاوج واضح بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية، وقامت مؤسسات كان هذا الهدف في بؤرة اهتمامها منها مثلا: "صندوق الأبحاث الفلسطينية، والجمعية الأمريكية للتنقيب بفلسطين، والمدرسة البريطانية للآثار في فلسطين"... وغيرها.
وبفضل النتائج التي ظهرت نشأ علم جديد يبحث في الرواية التاريخية في الكتاب المقدس عامة والعهد القديم خاصة ومدى صدق هذه الرواية، وهذا العلم كانت له أصول قديمة حينما كان العلماء اليهود قبل ظهور الإسلام وبعده، ثم العلماء المسلمين (مثل ابن حزم كما ذكرنا في مقال سابق) يشيرون إلى وجود تناقضات تاريخية في العهد القديم، لكن علماء العصر الحديث توفر لهم ما لم يتوفر للقدامى فجاءت أبحاثهم مدعومة بحقائق علمية وليست مجرد آراء نظرية.
كانت الدراسات تتوالى كاشفة عن أن التاريخ الإسرائيلي القديم لم يدون بشكل صحيح، وأنه تاريخ مليء بالأساطير والحكايات والخرافات، كما أنه في أكثر الأحيان كان مخالفا لما تم تدوينه في بلاد النهرين وفي مصر، أو مخالفا لما تثبته معامل التحليل ووسائل التقنية الحديثة. وهذا كله أدى إلى أن العهد القديم لم يعد المصدر الوحيد لتاريخ المنطقة، أو بالأحرى لم يعد مصدرا موثوقا لمثل هذه المعلومات.
2 ـ مدرسة النقد النصي:
يعتمد عمل هذه المدرسة على مقارنة نسخة العهد القديم المعتمدة (النص الماسوري) بترجمات العهد القديم، أو بالمخطوطات المكتشفة للعهد القديم، أو بنصوص عبرية أخرى تتبناها بعض الفرق اليهودية، أو مقارنة نصين داخل العهد القديم بعضهما ببعض، ويهدف عمل هذه المدرسة في الأساس إلى وضع تصور عن الصورة الأصلية التي كان عليها نص العهد القديم، ومحاولة العودة بنصه إلى صورته الأصلية؛ حيث يسلم الباحثون في مجال النقد النصي بأن العهد القديم يحتوي على العديد من الأخطاء النصية التي حدثت لأسباب عديدة منها مثلا: رداءة أدوات الكتابة والأحبار المستخدمة؛ ما قد يؤدي إلى تشوه حالة الحروف وبالتالي قد يغير في المعنى أو يجعله مبهما، كذلك فإن التشابه القائم بين العديد من حروف اللغة العبرية كثيرا ما أدى إلى وقوع أخطاء واضحة عند كتابة النص (مثل التشابه بين حرفي الراء والدال، وتشابه حرفي الواو والجيم، وحرفي الباء والكاف، وحرفي السين والميم النهائية..)، يضاف إلى ذلك أن نساخ العهد القديم كثيرا ما تدخلوا في النص لأسباب أيديولوجية أو عقائدية.
وتفيد بعض الترجمات التي تستخدم في مقارنتها بالنص العبري الحالي للعهد القديم في أنها قد تكون أقدم من العهد القديم ذاته؛ ومثال ذلك الترجمة السبعينية (اليونانية) التي ترجمت ليهود الإسكندرية في القرن الثالث ق.م. على يد اثنين وسبعين حبرا يهوديا، واكتملت ترجمتها في القرن الأول ق.م. بترجمة الأسفار التي تعود إلى القرن الأول ق.م. (سفر الجامعة)، وتحتوي هذه الترجمة على أسفار غير موجودة في النص الماسوري (أسفار المكابيين، وحكمة بن سيرا..) كما أن نص بعض أسفارها جاء أطول من النص الماسوري (سفرا دانيال، وإستير).
وعندما نقارن نسخة العهد القديم المعتمدة (التي أقرها أحبار فلسطين في طبرية في القرن الثامن الميلادي) بالترجمة السبعينية فإننا كثيرا ما نجد اختلافات متنوعة بينهما، وفي هذه الاختلافات كثيرا ما تتفق الترجمة السبعينية مع مخطوطات العهد القديم المكتشفة في كهوف قُمران (لفائف البحر الميت) وهي أقدم مخطوطات غير مكتملة للعهد القديم، وهذا يعني أن نساخ العهد القديم كانوا أمام نسخ متعددة ومختلفة استخدموها في تدوين العهد القديم.
وإلى جانب الترجمة السبعينية يستخدم علماء مدرسة النقد النصي ترجمات أخرى ويقارنوها بالنص العبري مثل الترجمة اللاتينية (الفولجاتا)، والترجمة السريانية (البشيطا)، والتوراة السامرية (أسفار موسى الخمسة التي تتبناها فرقة السامريين والتي تختلف كثيرا عن نسخة التوراة المعتمدة لاختلاف معتقدات فرقة السامريين جذريا عن باقي الفرق اليهودية)... وغيرها.
3 ـ مدرسة النقد الأدبي:
يهتم عمل هذه المدرسة بالإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: من مؤلف النص؟ ومتى؟ وأين تم تدوينه؟ وما هي المصادر التي استمد منها مادة هذا النص؟ لقد أثيرت هذه الأسئلة قديما لدى علماء التلمود وعلماء اليهود في العصور الوسطى، لكنها لم ترق لتكون منهجا علميا واضحا، كما أن الإجابة عن هذه الأسئلة كانت في أكثر الأحيان تتماشى مع ما يتطلبه ترسيخ القناعة بأن هذه الأسفار أصيلة ومؤلفوها هم أنفسهم الذين ينسب التراث اليهودي لهم كتابة هذه النصوص.
لكن الأمر الذي اختلف عن هذه الأسئلة القديمة هو أنه أصبح واضحا أن الكثير من نصوص العهد القديم قد كتبها أكثر من مؤلف، وأن أكثر الأسفار تنتمي لأكثر من مؤلف، ولا يمكن الحديث عن وحدة النص فيها، وبالتالي فقد كان من الضروري الوصول إلى الأيدي المختلفة التي عملت في كل نص.
وللوصول إلى عدد من شاركوا في كتابة سفر ما، وإلى عدد وحداته وإلى أي زمن ينسب تأليف كل وحدة فيه كان لابد من تحليل النص تحليلا وافيا يهتم باللغة (المصطلحات، والألفاظ، والأساليب البلاغية المستخدمة فيه)، ويهتم بالفجوات داخل النص أو التكرار، وبذلك يتمكن الباحث من تحديد بداية النص ونهايته ليقسم السفر إلى وحدات أدبية، بعد ذلك ينظر الباحث إلى هذه الوحدات ليقرر إن كانت متناسقة في لغتها وبلاغتها والموضوعات والأفكار التي تطرحها وبالتالي يحكم بأصالة النص، أم أنها وحدات متباينة ومتعارضة أو غير متناسقة، وبالتالي يقرر أن النص ينتمي لأكثر من مؤلف.
وإذا قرر الباحث عدم وحدة النص فإن الخطوة التالية تكون محاولة تحديد زمن كل وحدة بناء على مقارنة لغتها بلغة نصوص أخرى، أو بتحليل الأحداث المذكورة أو بأي وسيلة أخرى ممكنة، وتفتقد أكثر أسفار العهد القديم إلى وحدة النص؛ فسفر إشعيا يقسم إلى ثلاث وحدات، وسفر أرميا يقسم إلى وحدتين، وأسفار التوراة الخمسة تقسم إلى أربع أو خمس وحدات رئيسية ثم تتفرع بعد ذلك، وسفر المزامير يقسم كذلك إلى العديد من الوحدات... وهكذا مع أكثر أسفار العهد القديم.
4 ـ مدرسة النقد المصدري:
من الضروري بداية أن نوضح ماذا نعني بكلمة مصدر؛ تعني كلمة مصدر: رد التوراة إلى مصادرها الأصلية وإن تعددت، فنتائج الدراسات الحديثة تثبت أن التوراة اشترك في كتابتها أجيال متعاقبة، وكان لكل جيل اتجاهه وأفكاره بل وألفاظه ومصطلحاته الخاصة، وهذا الاتجاه يسمى في علم نقد العهد القديم مصدرا.
وتعد مدرسة النقد المصدري واحدة من أهم الاتجاهات التي تدرس العهد القديم إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لقد كان الاعتقاد القديم الذي توارثه اليهود المحافظون والمسيحيون يؤكد على كتابة موسى لأسفار التوراة الخمسة، إلى أن جاءت الإشارات الرمزية للعالم اليهودي إبراهام بن عزرا (12 ق م) لتشير إلى أن موسى عليه السلام ليس هو من كتب التوراة، وأن هذه التوراة كتبت بعد قرون من وفاته عليه السلام، وقد تأيدت هذه الرؤية فيما بعد على يد الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (17 ق م).
لكن مثل هذه الآراء لم يكتب لها سعة الانتشار في ذلك الوقت، إلى أن جاء طبيب فرنسي يدعى "جان أستروك" (18 ق م) ليقول إن قصة الخلق الواردة في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين تستخدم اسمين للتعبير عن الإله: الأول هو اسم "يهوه"، والثاني الاسم "إلوهيم" وكانت تلك هي بداية الحديث عن وجود مصدرين (اليهوي والإلوهيمي)، لكن الأمر في ذلك الوقت اقتصر على قصة الخلق فقط إلى أن ظهر "إلجن" وتحدث عن تطبيق هذه النظرية على سفر التكوين ككل وقسّم المصدر الإلوهيمي إلى مصدرين ليصبح الحديث عن ثلاثة مصادر (اليهوي والإلوهيمي والكهنوتي)، وأصبحت دراسة هذه المصادر تطبق على الأسفار الأربعة الأولى من التوراة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، إلى أن اكتشف العالم الألماني "دي فته" المصدر التثنوي الذي يرتبط أساسا بسفر التثنية وهو السفر الخامس من أسفار التوراة، وأصبح الحديث عن أربعة مصادر منذ ذلك الوقت، وإن كان بعض الباحثين قد زاد عليها مصدرا خامسا، كما قام آخرون بتقطيع هذه المصادر إلى أجزاء صغيرة لتصبح التوراة مفتتة إلى عشرات الأجزاء.
وقد وصلت مدرسة النقد المصدري إلى أوجها على يد عدد من الباحثين الألمان (رويس، وجراف، وفلهاوزن) وسميت نظرية المصادر اختصارا باسم "نظرية فلهاوزن" على أساس أن جهوده كانت الأبرز فيها، وبالطبع فقد تعرضت هذه النظرية لنقد قوي خاصة في الدوائر البريطانية والأمريكية وبين الكاثوليك الرومان عامة واليهود أيضا، وتعالت الأصوات ضد "الكفر الألماني" و"الجانب المظلم من التنوير" الذي يتعامل مع الكتاب المقدس وكأنه كتاب عادي.
لقد نظرت مدرسة النقد المصدري إلى التوراة واعتبرت أنها قد مرت بمراحل عدة لتصل إلينا بهذا الشكل، وأن كتّابا ذوي أفكار مختلفة وأساليب لغوية متباينة شاركوا في عملية التدوين تلك، وأن كل اتجاه من الاتجاهات التي كان ينتمي إليها هؤلاء الكتاب كان يمثل في الحقيقة فكرا قائما بذاته نشأ في ظروف تختلف عن الظروف التي نشأت فيها الاتجاهات الأخرى، وأنه في مرحلة ما من التاريخ القديم تم مزج تلك الأجزاء المتفرقة كلها معا في بوتقة واحدة لتشكل التوراة.
وكان واضحا أن عمل هذه المدرسة تطور من فكرة تتحدث عن اختلاف أسماء الألوهية في قصة الخلق في سفر التكوين، إلى ملاحظة أن هذا الاختلاف يتخطى مسألة الأسماء إلى الأفكار والتوجهات، وأن هذا الاختلاف كان في الحقيقة يعبر عن وجود اتجاهين فكريين أو مصدرين في هذه القصة، ثم تطور الأمر فيما بعد إلى الحديث عن ثلاثة مصادر وتتبعها في سفر التكوين، ثم تتبعها في أسفار التوراة الأربعة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، حتى تم اكتشاف مصدر رابع ليصبح الحديث عن أربعة مصادر في أسفار التوراة الخمسة؛ وهذه المصادر هي: "المصدر اليهوي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع ق.م.، و"المصدر الإلوهيمي" ويرجع للقرن التاسع أو الثامن ق.م.، و"المصدر التثنوي" ويرجع للربع الأخير من القرن السابع ق.م.، ثم "المصدر الكهنوتي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن السادس ق.م.
وهذه المصادر تم جمعها معا في أواخر القرن السادس أو أوائل القرن الخامس ق.م. لتشكل معا أسفار التوراة، وسرعان ما اتسعت حدود عمل مدرسة النقد المصدري بعد أن بدأ الباحثون تتبع أثر المصادر الأربعة خارج أسفار التوراة إلى أسفار الأنبياء والمكتوبات، ورغم ما يربو على قرنين ونصف هي عمر مدرسة النقد المصدري فما زالت تحظى بالاهتمام الأكبر عند الباحثين في مجال دراسات العهد القديم.
وقد كان من نتائج الأبحاث التي عملت وفق منهج النقد المصدري أن أصبحت الأوساط العلمية تؤكد أن فكرة كتابة موسى عليه السلام للتوراة مستبعدة تماما، وغير منطقية، وذلك خلافا لما ظل سائدا في الدوائر الكنسية وعند المحافظين اليهود؛ حيث ظلوا يؤكدون على كتابة موسى عليه السلام للتوراة، رغم أن الشواهد كلها كانت تثبت عكس ذلك، كذلك أصبح واضحا أن التوراة تأثرت بالآداب القديمة لشعوب بابل وآشور ومصر والكنعانيين، بل وتأثرت بالمعتقدات القديمة الوثنية لهذه الشعوب أيضا؛ وربما كان ذلك مدخلا لموضوع آخر.
د. أحمد عبد المقصود الجندي كاتب المقال مدرس دراسات العهد القديم- كلية الآداب ـ جامعة القاهرة
منقول من موقع اسلام اون لاين
وقد ساعدت الاكتشافات الأثرية والتقدم التكنولوجي في الكشف عن مصدر آخر للمعرفة باكتشاف حضارات بلاد النهرين (البابلية والآشورية)، والحضارة المصرية القديمة، والكنعانية، والعديد من النقوش والكتابات التي أسهمت في تنوع دراسات العهد القديم وتطورها تطورا غير مسبوق، وقد نشأ على إثر هذا النشاط جيل من الباحثين ممن اهتموا بدراسة العهد القديم دراسة حرة، وتبنى نتائج دراساتهم -بغض النظر عن اتفاق هذه النتائج أو اختلافها- مع النصوص التي يدرسونها، ونتيجة لذلك تنوعت مدارس نقد العهد القديم تنوعا كبيرا؛ وسوف نشير هنا إلى بعض هذه المدارس النقدية ومناهجها وطريقة عملها، ونكتفي منها بمدرسة النقد التاريخي، ثم مدرسة النقد النصي، ثم مدرسة النقد الأدبي، ونختم بالحديث عن مدرسة النقد المصدري.
1 ـ مدرسة النقد التاريخي:
ظل العهد القديم لفترة طويلة المصدر الوحيد لتاريخ منطقة الهلال الخصيب (بلاد النهرين، وبلاد الشام) ومصر، واستمر هذا الحال حتى بدأت الاكتشافات الأثرية تأخذ مجراها؛ حيث اكتشفت خبايا وأسرار وتاريخ حضارات بلاد النهرين (بابل وآشور) والحضارة المصرية، وحضارة المنطقة السورية، فقد أمدت المعلومات التي توفرت من هذه الاكتشافات الباحثين بمصدر آخر يمكن أن يدعم رواية العهد القديم التاريخية، أو يكشف عن عدم صحتها، أو تناقضها مع الروايات التاريخية التي وردت في الكتابات المكتشفة التي تعود لهذه الحضارات.
كانت هناك دوافع أساسية أدت لانطلاق الاكتشافات الأثرية التي قادها الرحالة الغربيون والقناصل، ثم العلماء والباحثون لاحقا، وكان من بين هذه الدوافع الدافع الديني خاصة فيما يتعلق بالاكتشافات في فلسطين؛ حيث رغب العديد من الأثريين في إثبات مصداقية الروايات التوراتية، والبحث عن المدن والأماكن المذكورة في الكتاب المقدس، وهذا الهدف كان يدعمه مؤسسات لاهوتية تأسست خصيصا له، منها على سبيل المثال: "المدرسة التوراتية والأثرية للقديس ايتين"، و"المعهد الإنجيلي الألماني لعلم الآثار القديمة للأرض المقدسة".
ورغم أن الهدف كان إثبات مصداقية الروايات التوراتية فإن النتائج كانت كثيرا ما تأتي عكس ذلك؛ حيث أثبتت مقارنة روايات العهد القديم التاريخية بتاريخ البابليين والآشوريين ومصر عدم دقة رواية العهد القديم، بل وعدم صحتها في كثير من الأحيان.
أما الدافع الثاني الذي يهمنا هنا فيتعلق بالمحاولات الصهيونية لإثبات الوجود الإسرائيلي القديم في فلسطين وبالتالي الادعاء بأن اليهود هم أصحاب الحق الشرعي في فلسطين وهذا من شأنه تأجيج المشاعر من أجل دفع اليهود للهجرة إلى وطنهم الأم؛ وهنا حدث تزاوج واضح بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية، وقامت مؤسسات كان هذا الهدف في بؤرة اهتمامها منها مثلا: "صندوق الأبحاث الفلسطينية، والجمعية الأمريكية للتنقيب بفلسطين، والمدرسة البريطانية للآثار في فلسطين"... وغيرها.
وبفضل النتائج التي ظهرت نشأ علم جديد يبحث في الرواية التاريخية في الكتاب المقدس عامة والعهد القديم خاصة ومدى صدق هذه الرواية، وهذا العلم كانت له أصول قديمة حينما كان العلماء اليهود قبل ظهور الإسلام وبعده، ثم العلماء المسلمين (مثل ابن حزم كما ذكرنا في مقال سابق) يشيرون إلى وجود تناقضات تاريخية في العهد القديم، لكن علماء العصر الحديث توفر لهم ما لم يتوفر للقدامى فجاءت أبحاثهم مدعومة بحقائق علمية وليست مجرد آراء نظرية.
كانت الدراسات تتوالى كاشفة عن أن التاريخ الإسرائيلي القديم لم يدون بشكل صحيح، وأنه تاريخ مليء بالأساطير والحكايات والخرافات، كما أنه في أكثر الأحيان كان مخالفا لما تم تدوينه في بلاد النهرين وفي مصر، أو مخالفا لما تثبته معامل التحليل ووسائل التقنية الحديثة. وهذا كله أدى إلى أن العهد القديم لم يعد المصدر الوحيد لتاريخ المنطقة، أو بالأحرى لم يعد مصدرا موثوقا لمثل هذه المعلومات.
2 ـ مدرسة النقد النصي:
يعتمد عمل هذه المدرسة على مقارنة نسخة العهد القديم المعتمدة (النص الماسوري) بترجمات العهد القديم، أو بالمخطوطات المكتشفة للعهد القديم، أو بنصوص عبرية أخرى تتبناها بعض الفرق اليهودية، أو مقارنة نصين داخل العهد القديم بعضهما ببعض، ويهدف عمل هذه المدرسة في الأساس إلى وضع تصور عن الصورة الأصلية التي كان عليها نص العهد القديم، ومحاولة العودة بنصه إلى صورته الأصلية؛ حيث يسلم الباحثون في مجال النقد النصي بأن العهد القديم يحتوي على العديد من الأخطاء النصية التي حدثت لأسباب عديدة منها مثلا: رداءة أدوات الكتابة والأحبار المستخدمة؛ ما قد يؤدي إلى تشوه حالة الحروف وبالتالي قد يغير في المعنى أو يجعله مبهما، كذلك فإن التشابه القائم بين العديد من حروف اللغة العبرية كثيرا ما أدى إلى وقوع أخطاء واضحة عند كتابة النص (مثل التشابه بين حرفي الراء والدال، وتشابه حرفي الواو والجيم، وحرفي الباء والكاف، وحرفي السين والميم النهائية..)، يضاف إلى ذلك أن نساخ العهد القديم كثيرا ما تدخلوا في النص لأسباب أيديولوجية أو عقائدية.
وتفيد بعض الترجمات التي تستخدم في مقارنتها بالنص العبري الحالي للعهد القديم في أنها قد تكون أقدم من العهد القديم ذاته؛ ومثال ذلك الترجمة السبعينية (اليونانية) التي ترجمت ليهود الإسكندرية في القرن الثالث ق.م. على يد اثنين وسبعين حبرا يهوديا، واكتملت ترجمتها في القرن الأول ق.م. بترجمة الأسفار التي تعود إلى القرن الأول ق.م. (سفر الجامعة)، وتحتوي هذه الترجمة على أسفار غير موجودة في النص الماسوري (أسفار المكابيين، وحكمة بن سيرا..) كما أن نص بعض أسفارها جاء أطول من النص الماسوري (سفرا دانيال، وإستير).
وعندما نقارن نسخة العهد القديم المعتمدة (التي أقرها أحبار فلسطين في طبرية في القرن الثامن الميلادي) بالترجمة السبعينية فإننا كثيرا ما نجد اختلافات متنوعة بينهما، وفي هذه الاختلافات كثيرا ما تتفق الترجمة السبعينية مع مخطوطات العهد القديم المكتشفة في كهوف قُمران (لفائف البحر الميت) وهي أقدم مخطوطات غير مكتملة للعهد القديم، وهذا يعني أن نساخ العهد القديم كانوا أمام نسخ متعددة ومختلفة استخدموها في تدوين العهد القديم.
وإلى جانب الترجمة السبعينية يستخدم علماء مدرسة النقد النصي ترجمات أخرى ويقارنوها بالنص العبري مثل الترجمة اللاتينية (الفولجاتا)، والترجمة السريانية (البشيطا)، والتوراة السامرية (أسفار موسى الخمسة التي تتبناها فرقة السامريين والتي تختلف كثيرا عن نسخة التوراة المعتمدة لاختلاف معتقدات فرقة السامريين جذريا عن باقي الفرق اليهودية)... وغيرها.
3 ـ مدرسة النقد الأدبي:
يهتم عمل هذه المدرسة بالإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: من مؤلف النص؟ ومتى؟ وأين تم تدوينه؟ وما هي المصادر التي استمد منها مادة هذا النص؟ لقد أثيرت هذه الأسئلة قديما لدى علماء التلمود وعلماء اليهود في العصور الوسطى، لكنها لم ترق لتكون منهجا علميا واضحا، كما أن الإجابة عن هذه الأسئلة كانت في أكثر الأحيان تتماشى مع ما يتطلبه ترسيخ القناعة بأن هذه الأسفار أصيلة ومؤلفوها هم أنفسهم الذين ينسب التراث اليهودي لهم كتابة هذه النصوص.
لكن الأمر الذي اختلف عن هذه الأسئلة القديمة هو أنه أصبح واضحا أن الكثير من نصوص العهد القديم قد كتبها أكثر من مؤلف، وأن أكثر الأسفار تنتمي لأكثر من مؤلف، ولا يمكن الحديث عن وحدة النص فيها، وبالتالي فقد كان من الضروري الوصول إلى الأيدي المختلفة التي عملت في كل نص.
وللوصول إلى عدد من شاركوا في كتابة سفر ما، وإلى عدد وحداته وإلى أي زمن ينسب تأليف كل وحدة فيه كان لابد من تحليل النص تحليلا وافيا يهتم باللغة (المصطلحات، والألفاظ، والأساليب البلاغية المستخدمة فيه)، ويهتم بالفجوات داخل النص أو التكرار، وبذلك يتمكن الباحث من تحديد بداية النص ونهايته ليقسم السفر إلى وحدات أدبية، بعد ذلك ينظر الباحث إلى هذه الوحدات ليقرر إن كانت متناسقة في لغتها وبلاغتها والموضوعات والأفكار التي تطرحها وبالتالي يحكم بأصالة النص، أم أنها وحدات متباينة ومتعارضة أو غير متناسقة، وبالتالي يقرر أن النص ينتمي لأكثر من مؤلف.
وإذا قرر الباحث عدم وحدة النص فإن الخطوة التالية تكون محاولة تحديد زمن كل وحدة بناء على مقارنة لغتها بلغة نصوص أخرى، أو بتحليل الأحداث المذكورة أو بأي وسيلة أخرى ممكنة، وتفتقد أكثر أسفار العهد القديم إلى وحدة النص؛ فسفر إشعيا يقسم إلى ثلاث وحدات، وسفر أرميا يقسم إلى وحدتين، وأسفار التوراة الخمسة تقسم إلى أربع أو خمس وحدات رئيسية ثم تتفرع بعد ذلك، وسفر المزامير يقسم كذلك إلى العديد من الوحدات... وهكذا مع أكثر أسفار العهد القديم.
4 ـ مدرسة النقد المصدري:
من الضروري بداية أن نوضح ماذا نعني بكلمة مصدر؛ تعني كلمة مصدر: رد التوراة إلى مصادرها الأصلية وإن تعددت، فنتائج الدراسات الحديثة تثبت أن التوراة اشترك في كتابتها أجيال متعاقبة، وكان لكل جيل اتجاهه وأفكاره بل وألفاظه ومصطلحاته الخاصة، وهذا الاتجاه يسمى في علم نقد العهد القديم مصدرا.
وتعد مدرسة النقد المصدري واحدة من أهم الاتجاهات التي تدرس العهد القديم إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لقد كان الاعتقاد القديم الذي توارثه اليهود المحافظون والمسيحيون يؤكد على كتابة موسى لأسفار التوراة الخمسة، إلى أن جاءت الإشارات الرمزية للعالم اليهودي إبراهام بن عزرا (12 ق م) لتشير إلى أن موسى عليه السلام ليس هو من كتب التوراة، وأن هذه التوراة كتبت بعد قرون من وفاته عليه السلام، وقد تأيدت هذه الرؤية فيما بعد على يد الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (17 ق م).
لكن مثل هذه الآراء لم يكتب لها سعة الانتشار في ذلك الوقت، إلى أن جاء طبيب فرنسي يدعى "جان أستروك" (18 ق م) ليقول إن قصة الخلق الواردة في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين تستخدم اسمين للتعبير عن الإله: الأول هو اسم "يهوه"، والثاني الاسم "إلوهيم" وكانت تلك هي بداية الحديث عن وجود مصدرين (اليهوي والإلوهيمي)، لكن الأمر في ذلك الوقت اقتصر على قصة الخلق فقط إلى أن ظهر "إلجن" وتحدث عن تطبيق هذه النظرية على سفر التكوين ككل وقسّم المصدر الإلوهيمي إلى مصدرين ليصبح الحديث عن ثلاثة مصادر (اليهوي والإلوهيمي والكهنوتي)، وأصبحت دراسة هذه المصادر تطبق على الأسفار الأربعة الأولى من التوراة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، إلى أن اكتشف العالم الألماني "دي فته" المصدر التثنوي الذي يرتبط أساسا بسفر التثنية وهو السفر الخامس من أسفار التوراة، وأصبح الحديث عن أربعة مصادر منذ ذلك الوقت، وإن كان بعض الباحثين قد زاد عليها مصدرا خامسا، كما قام آخرون بتقطيع هذه المصادر إلى أجزاء صغيرة لتصبح التوراة مفتتة إلى عشرات الأجزاء.
وقد وصلت مدرسة النقد المصدري إلى أوجها على يد عدد من الباحثين الألمان (رويس، وجراف، وفلهاوزن) وسميت نظرية المصادر اختصارا باسم "نظرية فلهاوزن" على أساس أن جهوده كانت الأبرز فيها، وبالطبع فقد تعرضت هذه النظرية لنقد قوي خاصة في الدوائر البريطانية والأمريكية وبين الكاثوليك الرومان عامة واليهود أيضا، وتعالت الأصوات ضد "الكفر الألماني" و"الجانب المظلم من التنوير" الذي يتعامل مع الكتاب المقدس وكأنه كتاب عادي.
لقد نظرت مدرسة النقد المصدري إلى التوراة واعتبرت أنها قد مرت بمراحل عدة لتصل إلينا بهذا الشكل، وأن كتّابا ذوي أفكار مختلفة وأساليب لغوية متباينة شاركوا في عملية التدوين تلك، وأن كل اتجاه من الاتجاهات التي كان ينتمي إليها هؤلاء الكتاب كان يمثل في الحقيقة فكرا قائما بذاته نشأ في ظروف تختلف عن الظروف التي نشأت فيها الاتجاهات الأخرى، وأنه في مرحلة ما من التاريخ القديم تم مزج تلك الأجزاء المتفرقة كلها معا في بوتقة واحدة لتشكل التوراة.
وكان واضحا أن عمل هذه المدرسة تطور من فكرة تتحدث عن اختلاف أسماء الألوهية في قصة الخلق في سفر التكوين، إلى ملاحظة أن هذا الاختلاف يتخطى مسألة الأسماء إلى الأفكار والتوجهات، وأن هذا الاختلاف كان في الحقيقة يعبر عن وجود اتجاهين فكريين أو مصدرين في هذه القصة، ثم تطور الأمر فيما بعد إلى الحديث عن ثلاثة مصادر وتتبعها في سفر التكوين، ثم تتبعها في أسفار التوراة الأربعة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد)، حتى تم اكتشاف مصدر رابع ليصبح الحديث عن أربعة مصادر في أسفار التوراة الخمسة؛ وهذه المصادر هي: "المصدر اليهوي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن العاشر أو التاسع ق.م.، و"المصدر الإلوهيمي" ويرجع للقرن التاسع أو الثامن ق.م.، و"المصدر التثنوي" ويرجع للربع الأخير من القرن السابع ق.م.، ثم "المصدر الكهنوتي" ويرجع زمنه إلى منتصف القرن السادس ق.م.
وهذه المصادر تم جمعها معا في أواخر القرن السادس أو أوائل القرن الخامس ق.م. لتشكل معا أسفار التوراة، وسرعان ما اتسعت حدود عمل مدرسة النقد المصدري بعد أن بدأ الباحثون تتبع أثر المصادر الأربعة خارج أسفار التوراة إلى أسفار الأنبياء والمكتوبات، ورغم ما يربو على قرنين ونصف هي عمر مدرسة النقد المصدري فما زالت تحظى بالاهتمام الأكبر عند الباحثين في مجال دراسات العهد القديم.
وقد كان من نتائج الأبحاث التي عملت وفق منهج النقد المصدري أن أصبحت الأوساط العلمية تؤكد أن فكرة كتابة موسى عليه السلام للتوراة مستبعدة تماما، وغير منطقية، وذلك خلافا لما ظل سائدا في الدوائر الكنسية وعند المحافظين اليهود؛ حيث ظلوا يؤكدون على كتابة موسى عليه السلام للتوراة، رغم أن الشواهد كلها كانت تثبت عكس ذلك، كذلك أصبح واضحا أن التوراة تأثرت بالآداب القديمة لشعوب بابل وآشور ومصر والكنعانيين، بل وتأثرت بالمعتقدات القديمة الوثنية لهذه الشعوب أيضا؛ وربما كان ذلك مدخلا لموضوع آخر.
د. أحمد عبد المقصود الجندي كاتب المقال مدرس دراسات العهد القديم- كلية الآداب ـ جامعة القاهرة
منقول من موقع اسلام اون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق