مقالة كتبها الاستاذ أورخان محمد علي في موقع تايم تورك
أثار الأرمن في السنوات الأخيرة ما أطلقوا عليه اسم التطهير العرقي للأرمن في الدولة العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد أثاروا هذه المشكلة أمام تركيا مطالبين منها الإعتراف بهذا التطهير العرقي كخطوة أولى للمطالبة بالتعويض وربما بأراضي يعدونها أرمنية. وقد أثاروا هذه المشكلة في الولايات المتحدة الأمريكية في الأخص لوجود لوبي أرمني قوي وقد انضم اللوبي اليهودي أيضا إلى هذه الحملة بعد أن ساءت علاقة اليهود مع السيد رجب طيب أردوغان بعد موقفه الشهير في داوس، وكانت المشكلة الأرمنية من المسائل التي أثيرت كثيرا في الحملة الانتخابية الأخيرة لانتخاب رئيس الدولة في الولايات المتحدة التي انتهت بفوز اسيد باراك أوباما الذي اضطر إلى مسايرة الأرمن وصرح بأنه يوافق علة مقولة الأرمن من حدوث تطهير عرقي ضد الرمن من قبل السلطات العثمانية. كما أثيرت هذه القضية في مختلف دول أوروبا ولا سيما في فرنسا التي يوجد فيها لوبي أرمني قوي استطاع بثقله الحصول على تاييد فرنسا في هذا الصدد.
كما صدر قرار من الجمعية الوطنية الفرنسية قبل ست سنوات على قانون يتضمن الاعتراف بوقوع مذبحة وتهجير جماعي للأرمن في الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915م. وصدر القرار بموافقة 51 نائبا كانوا جميع من حضر تلك الجلسة. علما أن عدد النواب في المجلس النيابي الفرنسي يبلغ 557 نائبا .أي صدر القرار بنسبة أقل من 10%..
فما الأسباب الحقيقية لصدور مثل هذا القرار؟ . هناك آراء متعددة حول الموضوع في الأوساط السياسية والصحفية وعند المحللين السياسيين :
هذا هو الجانب الإخباري والسياسي للموضوع ولكن ما الوجه الحقيقي للقضية الأرمنية ؟
وما الحقائق التاريخية حولها ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه .
نبذة تاريخية :
عند تناولي للقضية الأرمنية في كتابي ( السلطان عبد الحميد الثاني : حياته وأحداث عهده ) قلت :
( ...كان الأرمن قد سكنوا هذه المنطقة من شبه جزيرة الأناضول قبل عدة عصور وقبل مجيء الأتراك، فكانوا لذلك على طريق الفاتحين – كالاسكندر الكبير – وفي منطقة النزاع بين الإمبراطوريات الكبيرة آنذاك وهي الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، مما أدى إلى وقوعهم تارة تحت سيطرة هذه وتارة نحت سيطرة تلك.ويعزى تشتتهم مع قلة عددهم إلى هذا السبب. أي وقوعهم في منطقة الصدام بين الإمبراطوريتين ، مما دفع البعض منهم على الابتعاد عن منطقة القتال والتوجه إلى مناطق أخرى.
وقد شكل الأرمن في تاريخهم بعض الإمارات والدول التي كانت في الغالب تحت سلطة وسيطرة الدول الكبرى، وقلما تيسرت لهم سبل الاستقلال. كما أنهم عانوا من اضطهاد الغالبين ومحاولتهم فتنتهم عن دينهم وعقيدتهم. وقد استوى في هذه المحاولة الفرس المجوس والبيزنطيون النصارى. فقد حاول الفرس تحويلهم عن المسيحية ، بينما حاول البيزنطيون تغيير مذهبهم وإدخالهم في المذهب الارثدوكسي، ومحاربة لغتهم وثقافتهم.
بعد ظهور الإسلام وتوسع دولته ، وتغلب المسلمين على الفرس وعلى البيزنطيين أصبح الأرمن تحت حكم العرب المسلمين تارة وتارة تحت حكم البيزنطيين. وفي عهد معاوية أصبح الأرمن تابعين للحكم الأموي في عهد ملكهم " قسطنطين الثاني" . ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي مع ضمان حرية عقيدتهم كدأب المسلمين في احترام عقائد الآخرين على مدار التاريخ )
وعاش الأرمن في سلام أيضا في ظل الحكم العثماني قرونا عديدة ، وكانوا يتمتعون بحرية العقيدة. ولما كانوا معفوون عن الخدمة العسكرية فقد انصرفوا إلى التجارة والصيرفة والصياغة والزراعة. وخلال مئات الأعوام – أي حتى أواخر القرن التاسع عشر – خلا تاريخهم من أي حركة عصيان مسلحة، حتى أن الأتراك أطلقوا عليهم لقب " الأمة المخلصة ". وكانت أعلى الوظائف الحكومية مفتوحة أمامهم فكان منهم الوزراء والأعيان والنواب والمدراء العامون والمستشارون.وندرج أدناه بعض من تقلد منهم مناصب رفيعة في الدولة العثمانية:
الوزراء:
1- آغوب كازازيان باشا وزيرا للمالية
2- غارابيت آرتن داود باشا وزيرا للبريد والبرق
3-آندون تنغر ياور باشا وزيرا للبريد والبرق
4- اوسكان ماردكيان وزيرا للبريد والبرق
5- بردوس حلاجيان وزيرا للشؤون الاجتماعية
6- المحامي كريكور سينابيان وزيرا للشؤون الاجتماعية
7- كريكور ىغاتون وزيرا للشؤون الاجتماعية
8-جبرائيل نورادونكيان وزيرا للشؤون الاجتماعية
9- جبرائيل نورادكونكيان وزيرا للخاجية
10- اوهانيس صاكيز باشا وزيرا للخزانة الخاصة
11- ميخائيل بورتقاليان باشا وزيرا للخزانة الخاصة.
الأعيان :
1-أوهانيس كيومجيان باشا 3- مانوك ازاريان
2- ابراهام اراميان باشا 4- جبرائيل نورادونكيان
النواب
أ - في المجلس النيابي لعام 1876م ( المشروطية الأولى)
1-اوهانيس الله ويردي : وكيل رئيس المجلس النيابي
2-صبوح ماقصوديان : نائب اسطنبول
3- روبن يازجيان : نائب أدرنة
4-ساهاك باورميان: نائب بورصة
5- هامازاسب بالاريان: نائب ارضروم
6- مانوك قارجيان : نائب حلب
7-ميخائيل آلتن طوب: نائب انقرة
8- آغوب شاهنيان : نائب سيواس
9- تانيل قارجيان : نائب ارضروم
ب- في المجلس النيابي لعام 1908م ( المشروطية الثانية)
1- كريكور زوهراب نائب اسطنبول
2- بدروس حلاجيان نائب اسطنبول
3-آغوب بابكيان نائب تكرداغ
4- آغوب بوياجيان نائب تكرداغ
5- آرتين بوشكيزيان نائب حلب
6- الدكتور نزارات داغاواريان نائب سيواس
7- اسطيفان اسبارتاليان نائب ازمير
8- هاميرسوم بوياجيان نائب كوزان
9- كغام درغارابديان نائب موش
10- كراكين باسترماجيان نائب ارضروم
11- واهان بابازيان نائب وان
ولا ندرج هنا أسماء النواب في المجلس النيابي لعام 1914م تجنبا للإطالة.
وفي احصائية أجريت عام 1912 م تبين أن عدد التجار المسجلين في الغرفة التجارية والصناعية في اسطنبول يبلغ ثلاثين ألف تاجر 25% منهم من الأرمن، و45% من الروم ، و15% فقط من الأتراك والباقي من قوميات أخرى.
إذن لماذا ومتى ظهرت هناك قضية اسمها القضية الأرمنية ؟
نستطيع تقسيم القضية الأرمنية إلى مرحلتين تاريخيتين :
أ )- مرحلة عهد السلطان عبد الحميد الثاني :
وهي المرحلة التي ظهرت فيها هذه القضية للمرة الأولى على المسرح الدولي.
ب)- مرحلة عهد الاتحاد والترقي:
ويتركز النقاش حولها حاليا ، وهي تصادف السنوات الأخيرة للدولة العثمانية قبل انهيارها في الحرب العالمية الأولى.
أ ) – القضية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني :
قلنا أن الأرمن عاشوا في سلام مع الأتراك طوال مئات السنوات دون أن يقوموا بأي حركة مسلحة. فما الذي تغير في العهود الأخيرة للدولة العثمانية - ومنها عهد السلطان عبد الحميد الثاني – لكي تظهر مثل هذه القضية ؟
بعد سير الدولة العثمانية نحو الضعف والتدهور ظهرت أطماع الدول الكبرى مثل روسيا وانكلترة وفرنسا لالتهام أجزاء من هذه الدولة المترامية الأطراف والضعيفة في الوقت نفسه.ونجحت فعلا في هذا . ولكن هذه الدول في أثناء سباقها هذا كانت تجد نفسها وجها لوجه بعضها مع البعض الآخر. وهذا هو جوهر ما سمي في التاريخ ب( المسألة الشرقية).
كانت من أهم وسائل تدخل هذه الدول الكبرى في المسائل الداخلية للدولة العثمانية بغية تمزيقها والتهام أجزاء منها هي إثارة الأقليات الدينية والعنصرية في الدولة العثمانية التي كانت تضم مختلف الأديان والمذاهب والقوميات والعناصر. وقد اختارت روسيا إثارة الأرمن القاطنين قرب الحدود الروسية العثمانية، فبدأت بتحريضهم وإمدادهم بالمال والسلاح والقيام بتدريبهم في أراضيها وتشكيل الجمعيات الإرهابية المسلحة من أمثال ( خنجاق) ومعناه : صوت الناقوس .و ( طشناق ) ومعناه : العلم.
والشيء الملفت للنظر أن قادة هذه الجمعيات الإرهابية المسلحة كانوا من أرمن روسيا فقط وتحت إمرة المخابرات الروسية.وكانت روسيا تحرض الأرمن على طلب تشكيل دولة أرمنية في الولايات الستة في شرقي الأناضول، مع أن الأرمن لم يكونوا يشكلون أكثرية في أي ولاية من هذه الولايات لسببين :
الأول : قلة عددهم،إذ كان عدد الأرمن – حسب الإحصائيات العثمانية والأجنبية كذلك – يتراوح بين مليون ومائتي ألف إلى مليون ونصف مليون فقط في جميع أراضي الدولة العثمانية.
الثاني : أنهم كانوا مبعثرين في ولايات ستة أي في مساحة كبيرة – للأسباب التاريخية التي ذكرناها سابقا- مما أدى إلى عدم تشكيلهم أكثرية في أي ولاية عثمانية.
لذا كان هذا المطلب الأرمني مطلبا خياليا من جهة، ومطلبا يستحيل على الدولة العثمانية قبوله.لأن هذه الولايات الستة كانت في قلب الدولة العثمانية، ولم تكن ولاية من الولايات العثمانية البعيدة عن مركز الدولة العثمانية ( أي ولاية في البلقان مثلا). وكان قبول الدولة العثمانية إقامة مثل هذه الدولة في مركزها وفي قلبها وفي ولايات يشكل المسلمون فيها الأكثرية أصلا ...كان مثل هذا القبول بمثابة عملية انتحارية للدولة العثمانية.لذا وقف السلطان عبد الحميد الثاني بكل صلابة أمام مطالب الدول الكبرى في هذا الخصوص ولم يعبأ حتى بتهديد انكلترة وقيامها بإرسال أسطولها إلى ( جنق قلعة ) كورقة ضغط وتهديد. ولم يتوان عن عقاب الأرمن المتورطين في هذه الحركات الإرهابية واتخاذ كافة التدابير الضرورية لحماية الدولة من ألاعيب ومؤامرات الدول الكبرى. ولم يكن من المنتظر طبعا من السلطان القيام بالخضوع لمطالب جمعيات إرهابية تحركها مخابرات الدول الكبرى، وقبول استقطاع مساحة كبيرة من قلب الدولة العثمانية وتقديمها لها.لذا فقد أطلق الأرمن لقب ( السلطان الأحمر ) على السلطان عبد الحميد الثاني.
واتبعت الجمعيات الأرمنية الإرهابية – الموجودة في إمرة المخابرات الروسية ثم البريطانية– وسائل الإرهاب والقتل تجاه الأرمن الذين لم يكونوا يرغبون في التعاون معها أو التبرع بالمال لها،فقتلت عددا كبيرا من الأرمن في ازمير واسطنبول وفي الولايات الستة.بل رتب الأرمن محاولة لاغتيال السلطان عبد الحميد الثاني عام 1905 م ففجروا عربة محملة بالديناميت أمام الجامع الذي كان يصلي فيه السلطان صلاة الجمعة ووقتوا التفجير قرب خروج السلطان من الجامع. ولكن السلطان نجا من هذه المحاولة التي خلفت وراءها 26 قتيلا وعشرات الجرحى.وقد ألقي القبض على الجاني، ولكن السلطان عفا عنه.
قلنا أن بريطانيا تبنت المسألة الأرمنية بعد أن نفضت روسيا يدها عنها، وذلك كورقة تهديد للدولة العثمانية ، ولكي تشكل من الدولة الأرمنية المزمع إقامتها حاجزا يحول بين روسيا وبين الوصول إلى الخليج العربي.ولا نستطيع هنا الإطالة في هذا الموضوع ولكننا نشير إلى أن هذا الأمر كان واضحا ومفهوما في مسرح السياسة الدولية آنذاك حتى أن الزعيم المصري المعروف مصطفى كامل ذكر في كتابه (المسألة الشرقية ) ما يأتي :
( ... فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمنية إنما ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية).
كما أشار هرتزل في مذكراته إلى مساعدة بريطانيا للحركات الأرمنية.
ب )- القضية الأرمنية في عهد الاتحاد والترقي:
عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى ودخلت الدولة العثمانية في أتونها بقرار أهوج من قبل جمعية الاتحاد والترقي القابضة على الحكم فيها اخترقت الجيوش الروسية الحدود الشرقية للدولة العثمانية لتفوقها على القوات العثمانية في العدد والعدد بنسبة ثلاثة أضعاف في الأقل.وقامت بمذابح وحشية في القرى الحدودية والمناطق التي استولت عليها،فهاجر مئات الآلاف من الأهالي من مدنهم وقراهم ومات منهم خلق كثير في ذلك الشتاء القاسي من البرد والجوع والمرض.
في أثناء هذه المآسي الإنسانية المروعة قام الأرمن القاطنون في تلك المناطق الحدودية بالتعاون مع جيش الاحتلال الروسي ضد أهالي القرى الذين عاشوا معهم عصورا عديدة ولم يروا منهم سوى المحبة... تعاونوا مع جيش الاحتلال الروسي لأنهم وجدوا الحرب ودخول الجيوش الروسية أراضي الدولة العثمانية فرصة ثمينة يجب ألا يضيعوها ... فرصة إقامة الدولة الأرمنية على تلك الأراضي بمساعدة الجيش الروسي المحتل. وقام الجيش الروسي بتجنيدهم في صفوفها وتشكيل ميليشيات مسلحة من الأرمن تعاونهم في الحرب وتكون لهم طابورا خامسا.
بدأ الأهالي المسلمون يتسلحون أيضا للدفاع عن أنفسهم، ويقابلون هجوم الأرمن بهجوم مثله.وبعد أن بدأ الأرمن بقتل الأطفال الأسرى من المسلمين بدأ المسلمون يقتلون أيضا أطفال الأرمن الأسرى. وفي إحدى المرات تجمع آلاف من أسرى الأطفال الأرمن في المنطقة التي كان العالم الإسلامي المشهور ( سعيد النورسي) موجودا فيها. وعندما سمع بنية قتل هؤلاء الأطفال منعهم مذكرا إياهم بأن الشرع الإسلامي لا يسمح بهذا مطلقا ثم أمر بإطلاق سراحهم وسمح لهم بالذهاب إلى المعسكر الروسي حيث التحقوا بأهاليهم خلف الخطوط الروسية.وقد كان لهذا التصرف أثرا كبيرا في نفوس زعماء الأرمن الذين عندما استولوا على بعض القرى المسلمة تركوا عادة ذبح الأطفال.
وهناك كتاب وثائقي فرنسي بعنوان ( المظالم الروسية الأرمنية
Documents Su les Ruses -Atrocutes Armeno )–فليرجع إليها من أراد التفصيل.
أي أن الأرمن وقفوا بجانب الجيوش المحتلة وخانوا بلدهم وأصبحوا لعبة في يد الدول الكبرى ، ولم يكتفوا بهذا بل أوقعوا مذابح وحشية بين الأهالي المسلمين لتهجيرهم عن قراهم وأماكنهم ليتسنى لهم تشكيل دولتهم فيها.وهناك الآلاف من الوثائق التاريخية العثمانية حول هذه المذابح وتم اكتشاف المئات من القبور الجماعية في تلك المناطق كان آخرها المقبرة الجماعية التي اكتشفت عام 1980م وكانت تضم عظام ( 280 ) ضحية من ضحايا إحدى هذه المذابح. ويقول المؤرخ التركي البرفسور ( أنور كونوكجو ) : ( يندر وجود قرية في شرقي الأناضول لم تتعرض لمذبحة أرمنية ).
كان من الطبيعي تولد عداوة كبيرة بين أهالي تلك المنطقة ضد هؤلاء القتلة من الأرمن.ولم يبقوا مكتوفي الأيدي ومتفرجين فقط على هذه المذابح ،بل تسلحوا وبدأوا يهجمون على القرى الأرمنية ويقتلونهم.
لم تستطع الحكومة العثمانية آنذاك من حل هذه المشكلة إلا بالقيام بتهجير الأرمن من تلك المناطق الحدودية لتقطع الصلة بين الأرمن وبين الجيوش الروسية.فقامت بعملية تهجير واسعة وكبيرة إلى سوريا ولبنان والموصل.كان عدد المهجرين كبيرا ( 600) ألف تقريبا.ونظرا لضخامة هذا العدد وعدم توفر الإمكانيات والوسائل الكافية لدى الدولة العثمانية لتنفيذ هذه العملية الكبيرة في ظل فقر الدولة وأهوال الحرب العالمية الأولى،لذا تم هذا التهجير بطرق بدائية جدا.فمات من هؤلاء أعداد كبيرة من البرد والجوع والمرض . ولا يستطيع أحد أن ينكر أن عملية التهجير هذه كانت مأساة إنسانية كبيرة.كما تعرضت قوافل المهجرين إلى غارات من قبل الأهالي الغاضبين الذين فقدوا أحبائهم في المذابح العديدة التي ظهرت وانتشرت نتيجة ظروف الحرب.
لم تكن الهجرة الأرمنية وحدها مأساة إنسانية، بل إن الحكومة العثمانية أصدرت أمرا إلى الأهالي القاطنين قرب الحدود الروسية النزوح والهجرة من أماكنهم بعد أن اخترقت الجيوش الروسية الحدود الشرقية للدولة العثمانية.في هذه الهجرة أيضا وقعت مآسي كبيرة يشيب من هولها الأبدان. ونحن نقرأ من مذكرات العلامة ( سعيد النورسي ) وصفا لعملية تهجير الأهالي المسلمين حيث يقول :
( ... كانت الثلوج قد تراكمت بارتفاع ثلاثة وأربعة أمتار، وبدأ الأهالي بالاستعداد لترك المدينة والهجرة منها بأمر الحكومة، والعوائل التي كانت تملك ستة أو سبعة من الأطفال كانوا لا يستطيعون سوى أخذ طفل أو طفلين فقط، ويضطرون إلى ترك الأطفال الباقين على الطرق الرئيسة وتحت أقواس الجسور مع قليل من الطعام ... وبين دموع الأطفال وصراخهم وبكاء الأمهات يتم مشهد فراق يفتت أقسى القلوب ...)
إذن فهكذا تم تهجير المسلمين كذلك...أي أن الجميع اكتووا بنار الحرب وقاسوا من قلة إمكانيات الدولة في توفير وسائل التهجير، ولم يكن الأمر مقتصرا على الأرمن.
وكما تبين أعلاه فلم تكن القضية قضية تطهير عرقي للأرمن، ولم تكن هناك أي نية في إيقاع المذابح بهم.لقد قاسى الأرمن ما قاسوه نتيجة تعاونهم مع جيوش الاحتلال وكونهم آلة في ألاعيب السياسة العالمية، من جهة، ثم من قلة إمكانية الدولة في ظروف الحرب العالمية وهي تقاتل في سبع جبهات. وأكبر دليل على ما نقول أن أحدا لم يلمس الأرمن الموجودين في اسطنبول أو في إزمير أو في المدن الأخرى بأي أذى. ولو كان الأمر أمر تطهير عرقي لما سلموا من يد الدولة.
يقول الأرمن بأن عدد هؤلاء الضحايا يتراوح بين مليون إلى مليون ونصف. ولا شك أن هذا العدد مبالغ فيه كثيرا.لأن عدد الأرمن الموجودين في جميع أراضي الدولة العثمانية كان بالكاد يبلغ المليون ونصف المليون.أما عدد المهجرين فكان يبلغ 600 الفا تقريبا ، ولم يمت جميع المهجرين،بل سلم أكثر من نصفهم حيث وصلوا إلى سوريا ولبنان والموصل وذهب قسم منهم إلى إيران وقفقاسيا.أي أن عدد الضحايا يقل عن 300 الف .بينما يقول بعض المؤرخين الأتراك بأن عدد الضحايا من المسلمين في المذابح الأرمنية يقارب المليون. وقد يكون في هذا الرقم أيضا بعض المبالغة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق