نشوء الدول و زوالها
دوائر الزمن ذات عدد عديد, و الزمن هو المتغير المتبوع و أما التاريخ هو المتغير التابع بمعني رياضي بحت هو ان التاريخ دالة في الزمن, و كلما مرّ الزمان ملاء كتب التاريخ افراح و اتراح, امجادا هنا و على الجانب الاخر هزائم و سعادة في امة و تعاسة و بؤس في امة اخرى, فدوائر الزمن مثل دوامات الهواء و الماء و هي البحر و الفضاء الذي تمخر فيه سفن الأمم و الشعوب عبابه و ربان السفن هي الدول التى تقود الشعوب و الامم لبر الامان لنصر تعز به الامة امد الدهر و تستلهم منه العزة و الشرف على مرّ الأزمان .
و الدول تجاهد هذه الدوامات فاذا كانت هذه الدوامات من تصاريف و عصف الزمان ثبتت و صبرت و جاهدت فان أوصلت شعوبها الى بر الأمان فهو النصر المؤزر و السؤدد السرمدي, فان هى خابت و فشلت قادت شعوبها لذل المحيا و ذل من بعد الممات يتوارثه جيل بعد جيل.
لذلك وجب علينا دراسة تاريخ الدول و الامم التى كانت تقودها و هذا المنطق السوي لفهم طبيعة الدول و كيفية نشوئها و كيف تذهب ريحها و تنهار و تصبح كأنها لم تكن.
و لعلنا لا نستغرب من كون دراسة التاريخ و فهمه و الالحاح على الاستلهام منه هو ديدن القادة الكبار و الفاتحين العظام و رجالات الدول المحنكة, ففي دراسته تستنير بصيرة من يسوسون شعوبهم و تصبح الطرائق الى العزة و الرخاء و المجد واضحة معلومة.
و لعل ما يمكن ان يستخلصه دارسي التاريخ من فوائد و عبر هو درسين اساسيين و هو ان نشوء الدول و بقائها يعتمد على عاملين اساسيين هما : اما الاول فهو حسن الادارة و السياسة و الثاني هو قوة الافكار و حضور العقائد في ذهن الشعوب و الطبقة الحاكمة
و هذا هو ما يدور حوله هذه المقالة و هذا هو ديدنها!
نظرة فاحصة على كل نشاط بشري في حياتنا نراه مرتبط ارتباط وثيق و عظيم بقوة الادارة و فاعليتها و كفائتها, فابسط النظم و النشاطات البشرية و هي التجارة البسيطة التى يمارسها اصحاب الاعمال البسيطة تعتمد على الادارة و خبرة و كفائة من يمارسها, و الدول و قوتها ليست استثناء من هذا التعميم فحسن الادارة و السياسة يحفظ الدول و ان كانت ضعيفة و يزيل الدول و ينسفها حتى لو كانت قوية.
و الادارة و السياسة تتضمن تثقيف عامة المنتسبين لهذه الدولة بما يحفظ كينونتها و يحفظها من خراب المؤامرات و تدمير المؤامرات التى قد تعصف بالدولة و تمحيها.
و هذه المؤامرات تكون دائما و ابدا مبنية على عنصر التضليل و الخداع و الكتمان و نشر الخبار و المعلومات الكاذبة المشينة التى من شانها ان تحرك نفوس الناس تجاه الثورة تجعل قلوبهم تغلي كالمرجل, الذي يعمي الشعوب و يصيبها بالخدر الذي يسهل على المتأمرين مهمتهم و يمحي بصيرتهم و حلمهم و فكرهم.
قوة الأفكار و حضور العقائد في اذهان الساسة و الشعوب هو من اقوى و من أهم العوامل التى تساعد الدولة على الصمود و على النشوء و على القاء في وجه تصاريف و عصف الزمان و الأخطار التى تهدد اي دولة و أي امة.
و لتوضيح كل ما سبق يجب استحضار التاريخ شاخصا امام اعيننا لكي نبرهن على صحة هذه الافكار.
قوة الافكار و حضور العقائد في اذهان العثمانيين:
يغزو تيمور لانك القائد التتري بلاد العثمانيين -الذين سيلعبون دورا سياسيا و عسكريا عظيما في العالم فيما بعد-و يسحق دولتهم و يقود بايزيد رأس الدولة
نفسه اسيرا و مهزوما, هنا اي من المعاصرين يدرك للوهلة الاولى ان الدولة العثمانية قد انتهت و ذهبت ريحا و لكن الغريب و العجيب فعلا ان الدولة تقوم من جديد بعد عشرة سنين او تزيد اقوى مما كانت عليه و أشد بأسا ترهبها الامم في زمانها, هذا كله لان العثمانيين كانت لديهم رؤية خاصة للعالم و الدنيا وكانوا يعتقدون انهم يجب عليهم ان يكونوا اقوياء و مستعدين دائما و ابدا لنصرة دينهم و كانوا ايضا منتشر بينهم الطرائق الصوفية في توحيد الدولة, حيث دائما و ابدا تتحد التكايا الصوفية في القطر الاسلامي الواحد من اجل ان تتكامل و تلم شمل الشعوب الاسلامية و حتى انها كانت تمد الفقراء بالطعام و المؤنة و ايضا كانت تبث روح الجهاد و تغرس في قلوب رعاياها الافكار و العقائد و كانت تعتبر جهاز دعائي جبار للدولة العثمانية و هذا هو السبب الرئيسي لقيام الدولة العثمانية من كبوتها مرة اخرى لتغزو العالم
الدولة الصفوية بعد هزيمة جالديران الساحقة:
يغزو سليم الاول هذا الفاتح الجبار هضبة ايرينا و يلتقي الجيوش الصفوية في صحراء جالديران و يسحقها في اقل من اثنا عشرة ساعة و تكون الطريق مفتوحة لتبريز و يتم تشتيت و التشريد بجيوش اسماعيل صفوي, هي كانت هزيمة ساحقة لا ريب لكن الذي غفله العثمانيين انهم لم يهزموا الافكار و العقائد التى زرعها اسماعيل صفوي في قلوب الفرس و بدا الجهاز الدعوي للصفويين ينشط و يبث افكاره و روح الثار من جديد في قلوب الفرس و يستلهم كما يدعي من عقائد الاثنا عشرية و محن آل البيت قوة دفع للقيام من جديد و هذا ليس غريب على الفرق الشيعية عامة فهي عاشت و اعتاشت على فكرة المظلومية و تخاات في وجدان الشيعة عامة فكان سهلا عليهم ان يرفضوا هذه الهزيمة و يسعون بدافع الافاكار و العقائد التى يعتقدونها الى استرداد دولتهم
القوة العسكري الجبارة لهانيء بعل تنهزم امام قوة ارادة الرومان:
لا يوجد مؤرخ او قائد عسكري الا و اثنى على عبقرية القائد العربي القرطاجي هانيء بعل بن بركة, فكل معاركه الحربية كان ينتصر فيها بالتكتيك و الخطط الحربية الباهرة و معركة كاناي الباهرة و تحفته العسكرية خير دليل على ذلك.
و ان كانت العسكرية و الحرب هي أس الدول و اساس قيامها فان السياسة و الادارة السياسية و الارادة هي من يحصد ما تزرعه الجيوش دائما و هذا ما كان يتفقر اليه مجلس الشيوخ الذي كان يحكم قرطاج و كانت هذه الميزة الوحيدة التى كانت تميز الجهورية الرومانية على قرطاج و جيشها و قائدها المرعب هانيء بعل.
و مكن الاختلاف بين مجلس شيوخ قرطاج المدينة التجارية المزدهرة و مجلس شيوخ الرومان هو ان مجلس الرومان كان مكون من ساسة طموحين يسعون سعيا حثيثا وراء كل مكسب سياسي و عسكري يعضد من مركز روما وسط حلفائها في ايطاليا و في البحر المتوسط لانهم لم يكونوا تجار و لا يعتمدون على التجارة بل يعتمدون على الغزو و الفتح و هذا طبعا على النقيض من المجلس القرطاجي الذي كان جله من طبقة التجار الثرية التى تمول الحرب و تسعي وراء مصالحها التجارية و تفكيرها ضيق لا يستطيع ادراك المكاسب المادية الهائلة ان استمرت في تمويل حرب هانيء بعل لكي يسحق الرومان.
فعلى الرغم من الهزائم الساحقة و الانتصارات الباهرة التى اوقعها هانيء بعل بروما فان شيء من هذه الانجازات العسكرية لهانيء بعل لم تروق لمجلس شيوخ قرطاج ! فهم لا يملكون افكار سياسية او رؤية سياسية للصراع الحالي و لا طموحات عسكرية كبيرة لتطوير قرطاج و دمج ثرائها و علومها و تجارتها في قوة عسكرية يمكن لها ان تسود كل العالم القديم و من الناحية النظرية كان سهل جدا على قرطاج تحقيق ذلك لكن خيبة قرطاج كانت في مجلس شيوخها .
اما روما كما ذكرنا انفا فهمي عكس ذلك فاوربا في هذا الزمان كانت مكان غير جاذب للسكان و ظروفها سيئة مما جعل شعوب هذه المنطقة تلجأ للغزو مثل الرومان و من قبلهم اليونان, فمصيرهم كان مرهون بحدود سيوفهم و هذا ما جعل روما تفكر بشكل مختلف جدا عن قادة قرطاج الذين كان كل واحد منهم يفكر بعقلية التاجر و الربح و الخسارة المادية الوقتية فقط من وراء هذه الحروب و لا ينظرون الى مكاسب سياسية و عسكرية و اقتصادية لها اثرها الايجابي مهول فيما بعد على قرطاج و التى كانت بكل سهولة ممكن تحول قرطاج الى امبراطورية.
على كل حال صمدت روما السنيين امام كل معارك هانيء بعل و تجرعت الهزيمة وراء الهزيمة و كلما انهزمت زاد اصرارها على تحقيق حلمها و التخلص من هانيء بعل و انشاء الامبراطورية.
في النهاية اثبت الرومان ان افكارهم و ثباتهم و عزيمتهم اقوى بكثير من تكتيكات هانيء بعل الحربية العبقرية,
و ان في تاريخ الحروب بين الرومان و قرطاج لاعظم مثال على ما نقوله فهانيء بعل استطاع ان يهزم جيوش قرطاج ذات العدد العديد و اكبر منه و الاقوى منه بكثير فقط بالافكار و التكتيكات العسكرية العبقرية البارعة الباهرة و على الجانب الاخر , الجانب المهزوم الذي اختار ان يصمد و حتى ان يقاوم هانيء بعل مقاومة سلبية و هي الا يحاربه في احيان اخرى نلحظ قوة هزيمة الرومان و قوة ارادتهم و ايضا قوة اداراتهم للحرب و الصبر و الثبات و هي الخصال و المميزات التى لاحقا استطاعت ان تجعل الرومان تلحق هزيمة ساحقة بقرطاج للأبد في معركة زاما في شمال افريقيا.
الانقلاب الاموي على الخلافة الراشدة:
ان تحول الحكم الرشيد النبوي من حكم شوراوي الى حكم جبري ديكتاتوري بعد ثلاثين سنة من الحكم الراشدي العادل لهو بحق اكبر حدث دراماتيكي في التاريخ الاسلامي و يظهر فيه بقوة مدى تأثر بعض اقطار الدولة بالدعاية الكاذبة لدعاة بني امية و لاسيما بدعاوي معاوية بن ابي سفيان و كيف كان لها اثر مرعب في قلب نظام الحكم و كيف اثرت على مجريات الاحداث و كيف اتخذ بني امية من جهل عامة اهل الشام مطية ليركبها لتحقيق مآربه و طموحاته السياسية الخارجة عن حكم الشريعة الحنيف.
فالدعاية الاموية و يالصفاقتها ادعت ان حكم الجبر هو من الدين ! و الاغرب انها استطاعت ان تقنع ان معاوية هو اقرباء النبي صلى الله عليه و سلم و ان علي بن ابي طالب ليس كذلك !! طبعا هذا كان بداية تحويله الحكم من الشوراوية الى جبرية الكسروية القيصرية كما سماها الصحابة انفسهم.
ان الجهاز الاعلامي التثقيفي في الدولة مهم جدا و يكاد يماثل نصل السيف في اهميته, فهو الذي ينشر الافكار و يدحض الاكاذيب و ينشر الافكار و العقائد التى يسلّم بها الشعب, و ان لم يهتم الحكام بهذا الامر فلسوف يجدون انفسهم امام مشكلات رهيبة لا يمنك حلها في ايام او شهور بل احيانا تعصف بالدولة نفسها.
و نشوء الدولة الاموية نفسها اكبر مثال على ذلك و المثير فعلا للاستغراب ان بني امية كانو هم رؤوس قريش الكبيرة التي ظلت تحارب الدعوة الاسلامية بل تحارب النبي صلى الله عليه و سلم نفسه طيلة عمرها و لم تسلم له الا و حد السيف مسلط على رقبتها.
فهذا الانقلاب الدموي الدارمتيكي كان في الحقيقة اكبر عملية خداع كبرى حدثت للامة الاسلامية, بل استطاع الامويون بصبرهم و تركيزهم للثروة في ايديهم و نشر الدعواي الكاذبة ان يستعيدوا سيادتهم لقريش مرة اخرى لكن هذه المرة كانت قريش تحكم اكبر امبراطوريتين في العالم و ما ورائهما, ان دراسة هذه تاريخ الامويون, يوضح اهمية الادارة و السياسة و قوة تاثير الافكار , فعلى الرغم من ان اهل المدينة المنورة و هم الرعيل الاول ضد هذا الانقلاب و على رغم من ادراكهم لمؤامرات الامويون الا ان هذا الادراك و المرعفة لم ينفع مع جهل اهل الشام -القوة الغاشمة في الدولة- التى كان يسيطر عليها الامويون, فقد انهزمت كل محاولتهم لاسترجاع الخلافة الراشدة على يد جهل اهل الشام, سوف يتم فيما بعد جزّ رأس الحسين عليه السلام حفيد الرسول صلى الله عليه و سلم على يد جيوش بني امية و لن تتحرك الامة لنصرته او حتى الانقلاب على الحكم الاموي و هذا طبعا كان بسبب الخدر الذي حققته الدعاية الاموية و جهاز اعلامهم , حيث تم تخدير الشعوب الاسلامية بدعاية كاذبة مفرطة في الكذب حيث كان يتم سبّ علي ّ بن ابي طالب على المنابر كل اسبوع وقت صلاة الجمعة!
و هناك الالاف من الامثلة على ما نقول به , و الان نكتفي بذلك على ان نعيد الكرّة و نكتب في هذا الموضوع الشيق في تدوينة اخرى باذن الله
------------------------------
ان اعجبتك المقالة انشرها و ان كان لك تحفظ على بعض المعلومات نرجو التعليق و الافادة فنحن هنا في معرض تبادل الافكار و الوصول الى المعرفة التامة, نحن نقبل كل نقد
و شكرا جزيلا
benaraby.org
benaraby.co
Technorati Tags:
التاريخ,
الحضارة,
العرب,
الفرس,
الترك,
الانتصارات,
الحربية,
العسكرية,
الامم,
الحضارات,
المعارك,
الارادة,
السياسة,
الحروب,
الزحف,
قوة,
العقائد,
الافكار,
التكنيك,
الامجاد,
الدول,
الدولة,
المجد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق